الفرصة التاريخية وصدق النوايا!
يجود الزمان أحيانا بفرص إن لم يحسن المرء استغلالها ضاعت من بين يديه، وقد لا تتكرر ثانية أبدا، ونحن اليوم أمام فرصة من هذا النوع، فرصة تاريخية سياسية سانحة للوقوف ورفع الصوت للمطالبة بإصلاحات سياسية جذرية، بعدما أثبتت العقود الماضية أن الوضع في البلاد في انحدار متواصل، ومن سيئ إلى أسوأ بلا توقف. أقول هذا لأني لمست أن وعي أغلب الناس اليوم وإدراكهم للأمر قد بلغ مداه، والنفوس قد صارت مهيأة إلى حد بعيد لمثل هذه المطالبات، خصوصا إن أتت في إطار موضوعي وعبر مشروع وطني متكامل واضح المعالم! ومما يزيد من تقبل الأمر شعبيا أن السلطة في المقابل، وعلى الرغم من تغيير رئيس الحكومة السابق والمجيء بآخر تفاءل الكثيرون بقدومه، ولم أكن منهم، فلا تزال ترتع في ذات الضعف السياسي والضياع الإداري وعدم القدرة على مواجهة أعباء المرحلة وقيادة الدولة على أي صعيد كان، بل زادت على هذا أنها لم تبتعد كثيرا عن دائرة العبث والفساد السياسي السابقة، بل لعلها ظلت تنطلق من صميمها.
ولكن وأمام هذه الفرصة الفريدة لرفع سقف المطالب السياسية إلى المستوى الذي صارت تستحقه، يقرر نواب "كتلة الأغلبية"، وسأستخدم هذه التسمية رغم تحفظي عليها، اليوم حني الرؤوس والاكتفاء بحشد الجمهور للنزول إلى ساحة الإرادة لمواجهة ما أسموه: عبث السلطة بالانفراد بتغيير الدوائر! والحقيقة أن هذه المواجهة الجديدة ليست سوى حلقة أخرى في سلسلة ممتدة من المواجهات السابقة التي انتهت جميعها بلا استثناء إلى لا شيء ذي قيمة على صعيد الإصلاح الحقيقي، أي ذاك الذي يمكن أن يقال عنه إنه أخرج هذه البلاد الغريقة من أي واحدة من أزماتها فعلا. حلقة أخرى مكررة منخفضة السقف، كسابقاتها، ستنتهي غالبا إلى لا شيء حقيقي، كسابقاتها أيضا. ولكنني مع ذلك لن أنجرف للتشكيك في صدق نوايا نواب كتلة الأغلبية، كما هو شائع في شبكات التواصل الاجتماعي والدواوين هذه الأيام، وأنه وعلى الرغم من تهديدهم الخطابي المتكرر "برفع السقف" فإنهم غير صادقين بذلك أبدا، وذلك لأن المطالبة بالحكومة الشعبية المنتخبة والانتخابات عبر الدائرة الواحدة بنظام القوائم والتمثيل النسبي وغيرها، مما سبق لي ذكره في مقالات سابقة، من الإصلاحات الجذرية سيضر أول ما يضر بمصالحهم هم شخصيا، بل قد يُخرج كثيراً منهم من المشهد السياسي برمته، ويتطلب لذلك تضحية كبيرة وتسامياً على المصلحة الشخصية للمصلحة العامة، وهو ما يفتقر إليه أغلبهم. لن أنجرف لهذا القول على الرغم من شيوعه اليوم وانتشاره في أواسط نفس الشباب الذين كانوا بالأمس في مقدمة الحراك الشبابي الداعم لهؤلاء النواب، وهو التغيير الذي يحمل رسائل ذات مضامين خطيرة لو كان لدى نواب الأغلبية قليل من بعد النظر. لن أنجرف لهذا وسأفترض بدلا منه أن نزول هؤلاء النواب إلى هذه المواجهة المنخفضة السقف ليس سوى سوء تقدير وعدم إدراك لحيوية وحساسية المرحلة، ولحقيقة أن هذه الفرصة التاريخية لا يصح أن تفوت، لكنني مع ذلك لن أضيع الوقت في محاولة إقناعهم بذلك، بل سأوجه خطابي إلى الفعاليات الشعبية التي تتحرك اليوم، وبالأخص الحراك الشبابي على اختلاف تياراته- وهي التي آمل حقا أن تتوحد في هذه المرحلة على الأقل- بأنه قد مضى زمان التمترس خلف هؤلاء النواب بسقفهم المنخفض جدا، وبمواجهاتهم الباهتة المتكررة التي لا تزال تخذل الطموحات الإصلاحية الحقيقية مرة بعد مرة، وأنه قد حان وقت المضي قدما والتحرك لأجل تحقيق تلك الطموحات العالية دون حاجة لوجود هؤلاء النواب أصلا، وذلك من خلال سلسلة مدروسة ومخطط لها من الاعتصامات والندوات والمحاضرات المدعومة بحملة إعلامية حرة على كل الجبهات المتاحة. ولا بد أن يصاحب هذا الحراك التخلص من أسر تلك الأسماء السياسية والنيابية القديمة المألوفة، والتي أثبتت اليوم أنها لا تمتلك بضاعة غير الخطابات والشعارات الرنانة الخالية من المضمون والقيمة الحقيقية، هذا بالطبع ما لم تقرر أن تتغير وتركب مع ركاب القطار الجديد المتحرك نحو المستقبل. نعم أدرك أن هذا الكلام خطير وغير مألوف، وأن المسير لأجله طويل وقطافه لن يكون بين يوم وليلة، وأن التضحيات في المقابل قد تكون كبيرة وبالغة، لكنني أؤمن وبيقين يزداد رسوخا في كل لحظة بألا سبيل أمامنا سواه لصنع كويت المستقبل التي ستكون قادرة على الصمود والعيش في هذا العالم المتلاطم.