الصين وشبكتها المتطورة

نشر في 14-09-2012
آخر تحديث 14-09-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت في مقال نُشِر أخيرا، يُعَرِّف رجل الاقتصاد أكسل ليونهوفود نظام السوق بوصفه شبكة من العقود، ولأن بعض العقود مرتبط ببعض، فإن أي عجز في الوفاء بالديون المستحقة من شأنه أن يؤدي إلى سيل من الوعود غير المنجزة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى "تدمير الشبكة بالكامل تقريباً من العقود الرسمية وغير الرسمية والتي يحتاج إليها النظام لكي يؤدي وظائفه".

ويتلخص دور الدولة في حماية وتعزيز وتنظيم هذه العقود وحقوق الملكية المرتبطة بها، فضلاً عن التدخل لمنع الفشل الشامل للنظام.

وهذه الشبكة من العقود- التي يتم التعامل معها غالباً باعتبارها من الأمور المسلم بها، إلى الحد الذي قد تصبح معه غير مرئية- تجسد القواعد الرسمية وغير الرسمية المتأصلة في نظام السوق الذي يشكل ويقيد السلوك الفردي والاجتماعي، وهي تشكل النسيج الذي تتألف منه كل المؤسسات الإنسانية.

وتمتلك الأنظمة الاقتصادية المتقدمة شبكات بالغة التعقيد من العقود، مثل المشتقات المالية، ويزعم ليونهوفود أن هذا يعني بالنسبة إلى أوروبا نهجاً ذا شُعب ثلاث يركز على "مستويات المديونية"، و"عدم توافق تواريخ الاستحقاق"، و"وضعية الشبكة"، وهذا يعني "مدى ترابطها وما يوجد فيها من العقد الحرجة التي هي أضخم من أن يُسمَح لها بالفشل بها". وهذا لأن "شبكة العقود اكتسبت بعض التناقضات الخطيرة". والإصرار على ضرورة الوفاء بكل العقود من شأنه أن "يؤدي إلى انهيار الأقسام البالغة الضخامة من الشبكة"، فضلاً عن "العواقب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لا يمكن حساب أبعادها".

وعلى النقيض من هذا، تعمل الأسواق الناشئة مثل الصين وفقاً لأنظمة أقل تطوراً، وتنشأ لديها روابط تعاقدية-مؤسسية أكثر تعقيداً بمرور الوقت، خصوصاً من خلال المعاملات الخاضعة للعولمة. وفي ظل الاقتصاد الصيني الموجه فإن أغلب العقود تتم بين أفراد ودول، في حين نشأت عقود السوق الأكثر تطوراً أو عادت إلى النشوء على مدى الأعوام الثلاثين الماضية فقط. والواقع أن الاستخدام الواسع النطاق لعقود السوق مع شركات الملكية العامة كان بمنزلة تكيف حديث ومهم في التحرك باتجاه "اقتصاد السوق الاشتراكي".

ولكن من الممكن أيضاً أن نفهم شبكة العقود باعتبارها أنظمة سوق متكيفة معقدة، وتشتمل أيضاً على علاقات الدولة والأسرة. ولكي نفهم اقتصاد السوق الاشتراكي في الصين، فمن الضروري أن ندرس بشكل منهجي هذه الأشكال المختلفة من العقود والهياكل المؤسسية.

عقود الأسرة والقرابة: التي تحكم الزواج، والتبني، والمعايشة، والميراث، إلى آخر ذلك من أشكال الوحدة الأساسية للمجتمع البشري. وهذه العقود هي الأكثر قِدَماً والتي تظل تشكل الأساس للعلاقات الاجتماعية في الصين اليوم.

عقود الشركات: التي تضع الشخص القانوني الساعي إلى الربح في قلب المعاملات وتربط بين كل أصحاب المصلحة فيها، ولقد سجلت عقود الشركات نمواً مضطرداً على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، ولكنها تتميز بسمات خاصة تعكس الدور الأساسي الذي تؤديه المؤسسات المملوكة للدولة في الصين.

عقود السوق: التي تُبرَم بين المنتجين والمستهلكين- أو بين المنتجين في سلاسل التوريد- وتربط الأفراد، والأسر، والشركات، والحكومات، والمنظمات العامة عن طريق الأسواق المحلية أو العالمية. وفي العقود القليلة الماضية، بدأت الصين بممارسة قانون حديث للعقود وانضمت إلى منظمة التجارة العالمية، وألزمت نفسها بالقواعد الدولية التي تحكم التجارة والاستثمار.

العقود المدنية غير الحكومية وغير الساعية إلى الربح: والتي تربط الناس معاً في أنشطة طائفية ودينية واجتماعية وسياسية. ولا تزال هذه العقود جديدة نسبياً وخاضعة للتطور في الصين.

العقود الاجتماعية المنشأة بقوة القوانين الدستورية والإدارية: والتي تحدد صلاحيات ومسؤوليات الدولة وهيئاتها التأسيسية في مقابل الأفراد والقطاع الخاص. وهي تتضمن سلطة فرض الضرائب والقيود على الأفراد والكيانات الخاصة من خلال القوانين الجنائية والإدارية والمدنية، فضلاً عن التزام الدولة بتوفير المنافع والخدمات العامة، ولقد نجحت الصين في تعزيز قوة دولتها الوحدوية بتطعيمها بإبداعات مؤسسية مهمة أسفرت عن ازدهار النمو والطبقة المتوسطة، ولكنها لا تزال تحتفظ بالبنية الإدارية المؤلفة من مستويات خمسة- الحكومة المركزية على القمة، والهيئات على مستوى الأقاليم والمدن والبلدات والقرى عند القاعدة- والتي نشأت لأول مرة قبل ألفي عام.

إن فك رموز بنية شبكة العقود يشكل المفتاح إلى فهم الكيفية التي يتصرف بها أي اقتصاد، بما في ذلك تكيفه الديناميكي غير الخطي مع القوى الداخلية والخارجية. وعلى حد تعبير عالم الفيزياء فريتيوف كابرا، فيتعين على المرء أن ينظر إلى الكائنات الحية، والأنظمة الاجتماعية، والأنظمة البيئية باعتبارها أنظمة من التكيف المترابط المتكافل المعقد، وهذا يعني أننا لا ينبغي لنا أن ننظر إلى الاقتصاد والمجتمع من منظور هرمي جامد أو من منظور السوق الميكانيكية، بل باعتبارهما شبكات أو طبقات من الحياة، حيث تشكل العقود الرسمية وغير الرسمية، المحترمة أو المنتهكة، جوهر النشاط البشري، والواقع أن فحص شبكات العقود لابد أن يكون شبيهاً بفحص عالِم الأحياء لبنية الخلية وحمضها النووي.

ولقد أنشأت الصين أربع سلاسل توريد عاملة حديثة وعالمية النطاق في مجالات التصنيع، والبنية الأساسية، والتمويل، والخدمات الحكومية، وذلك بفضل شبكة عقودها المتطورة، المتوسعة، والمعقدة. ولكن كيف تمكنت الصين من بناء قاعدة صناعية حديثة في غضون فترة زمنية قصيرة نسبياً باستخدام عقودها الأبوية الأسرية التقليدية وهياكلها الدستورية العتيقة؟

لقد تمكنت الصين من خلال التجريب والتكيف والتطور- وهي العملية التي وصفت بأنها "عبور النهر بتحسس الصخور"- من إنشاء نظام أعلى، أو سلسلة توريد خامسة لعملية صنع القرار السياسي. والواقع أن "هندسة الحكم العالية المستوى" هذه، كما تُعرَف الصين، كانت تشكل ضرورة أساسية لتنسيق وإدارة سلاسل التوريد المختلفة والشبكة الإجمالية من العقود من أجل إيجاد التوازن الدقيق بين الأهداف الفردية، والأسرية، والشركاتية، والاجتماعية، والوطنية.

وتماثل هندسة الحكم العالية المستوى هذه نظام تشغيل الحاسب الآلي، الذي يدير المكونات البرمجية والأجهزة المختلفة لتشكيل وحدة كلية. والواقع أن مثل هذا الهيكل موجود في العديد من الاقتصادات، ولكنه في السياق الصيني، حيث تلعب الدولة دوراً مركزياً في الاقتصاد، يشكل ضرورة أساسية لفعالية النظام. وتتوقف الهيئة التي يتخذها هذا الهيكل على الكيفية التي يؤثر فيها تاريخ الصين، وثقافتها، وسياقها المؤسسي، وشبكة عقودها المتطورة على النسيج الاجتماعي للبلاد.

أندرو شنغ & شياو غنغ

* شينغ، رئيس «معهد» فونغ العالمي، والرئيس السابق للجنة الأوراق المالية في هونغ كونغ، وهو أستاذ مساعد حالياً في جامعة تشينغوا في بكين. وشياو مدير البحوث في المعهد نفسه.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top