يتزيّن بالشعر
كان يعمل محاسباً، ثم أصبح رجل ثقافة! بل الأكثر من ذلك أن مهنة المحاسبة كانت هي الباب الذي فتح أمامه الطريق لينغمس في المشهد الثقافي ويرسم خطوطه الأولى. ذلك هو عبدالله زكريا الأنصاري، الذي احتفت مؤسسة البابطين به شاعراً ضمن موسمها الثقافي السنوي الذي يتزامن مع ربيع الشعر العالمي. والأنصاري - كمعظم شخصيات عصره – كانت الظروف تتهيأ أمامه وتدفعه ربما بطريقة قدرية ليكون في تلك المواقع والمشاهد، فلولا اشتغاله بالمحاسبة في مطلع شبابه لما اختير محاسباً لبيت الكويت في القاهرة عام 1950م، ولما أتيحت له الفرصة ليختلط بأفواج طلبة العلم المبتعثين للدراسة في مصر، ولما كان شاهداً ومشاركاً في بزوغ عصر ثقافي كان يتبرعم في بيت الكويت آنذاك. حقاً إن للأقدار خططها العجيبة، ولها أدواتها ومساراتها!
حين وفد الأنصاري إلى مصر كانت حركة التجديد في الأدب والشعر في أوجها بعد أن قطعت مرحلة الإحياء وأرست قواعدها، ثم انطلقت نحو المزيد من الانفتاح على التجريب في الشعر خاصة. وكان لايزال الجو عابقاً بأفكار واجتهادات العقاد والرافعي وطه حسين ممن أرسوا قواعد المقالة الأدبية وجعلوها من مفردات الحياة الثقافية الأكثر حضوراً وثراءً. ومن يتصفح كتب عبدالله زكريا الأنصاري يرى مقدار تأثير تلك الأجواء على مقالاته التي تنحو نحو التأمل والتحليل والتعليل لمشاهد الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية، دون أن يغفل عن رفدها بنفحة من الذوق الأدبي في الأسلوب والخيال. وكما تأثر الأنصاري بروح المقال الأدبي عصرئذ، فإنه أيضاً تأثر بشعراء التيار الرومانسي خاصة، وبمزاجهم الرقيق وروحانيتهم الحالمة وإخلاصهم للحب والشعر. وإذا أضفنا إلى ذلك تفرغه المبكر إلى تدوين حياة فهد العسكر وجمع شعره، أدركنا سرّ اغماسه بذلك اللون من الشعر الحالم الرقيق الذي أتى متأثراً بعذوبة فهد العسكر ورهافته وشجنه. بيد أن الشاعرية لدى فهد العسكر كانت تمتاح من آبار أكثر عمقاً من بحيرات عبدالله الأنصارى الرائقة السانحة. ففي حين كانت حياة العسكر تعتكر بالمنغصات وتضج بالتحديات والمناكفات، كان الأنصاري ينعم بحياة مستقرة هانئة ومزاج مهادن ونفس راضية. والشعر المؤثر يحتاج ولا شك إلى تلك الفوضى الآسرة والعِرْق النافر المتحفّز للاختلاف والصدام، مما لا ينطبق على الأنصاري بسمْته الهادئ وصوته الخفيض وحيائه وقلة اكتراثه بالظهور والإعلان عن الذات. لذلك أتى شعر الأنصاري مهادناً أليفاً ونسخة مقلَّدة إن صح التعبير للوحات الشعر الرومانسي المحتفية بالحب ووصف الشعر وكينونته. بمعنى أن الأنصاري – كما يخيل لي – كان يتزيّن بالشعر ويستكمل به عدة الأديب، بل ويحسن نظمه في الكثير من مواقف التفكه والظرف، أو حين تستدعي المجاملة أو إثبات المقدرة على صناعة الشعر. استكمالاً للتكريم، قامت مؤسسة البابطين الثقافية بإعداد وطباعة ديوان عبدالله زكريا الأنصاري. ولعله مما يؤسف له أن يتم ذلك بعد وفاة صاحب هذا الإرث، وأن يقوم غيره بالجمع والانتقاء وإثبات أو حذف هذا أو ذاك من النصوص، مع التقدير طبعاً للنوايا النبيلة من وراء هذا الجهد المضني. ولعل التساؤل يثور حول مدى انصاف الميّت في مسألة نشر مسوداته وأوراقه الخاصة، ومدى ما يسمح به أو لا يسمح به منها لو كان له الخيار في هذه المسألة! وهذا التساؤل يظل قابلاً للجدل سواءً في حالة الأنصاري أو غيره. كنتُ أعتقد ولا أزال أن الكتابات – شعراً كانت أو غير ذلك – عادة ما يُدفع بها سريعاً إلى النشر في حال الرضا التام عن نضجها وصلاحها للنشر، أما النصوص البدائية أو الناقصة فعادةً ما تكون موضع تردد وتلكؤ، وقد يحتفظ بها الكاتب بين أوراقه لارتباطها بخصوصيات ليس غير. وأمر نشرها برأيي يظل من المحظورات ما لم يوصِ كاتبها بذلك، لأنها في العموم لن تقدم أو تؤخر في مسألة التقييم الكلي لتجربة الكاتب.