الخليج و الإخوان... ومصر
كانت السعودية أول دولة يزورها الرئيس المصري محمد مرسي بعد انتخابه؛ وهي زيارة استهدفت تأكيد رغبته ورغبة جماعة «الإخوان المسلمين» في استمرار العلاقة الاستراتيجية مع الرياض، ومن ثم مع دول الخليج العربية كافة، في ما بدا أنه تكريس لسياسة سلفه المُطاح حسني مبارك، رغم اتساع الهوة بين الرئيسين وتناقضهما الجوهري. تظل العلاقات المصرية- الخليجية المستقرة والوثيقة والمتطورة ضمانة للجانبين وضرورة لاستقرار المنطقة؛ لذلك قد لا تتغير طبيعة تلك العلاقات رغم سقوط نظام مبارك، إذا برهن الحليفان على رغبة حقيقية في التعاون والعمل المشترك، واستطاعا الوصول إلى «حلول وسط» في ما يتعلق بالقضايا محل الخلاف والتناقض. لكن لا يبدو أن الأمور ستكون سهلة على الإطلاق، فعوامل التباعد بين الخليج ومصر تحت حكم «الإخوان» تبدو حتى هذه اللحظة أكثر بروزاً من عوامل التقارب، رغم البداية المشجعة عبر زيارة مرسي المبادرة واستقبال الرياض المرحب. عشية اليوم الذي وصل فيه مرسي إلى جدة، اختارت صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية الصادرة من لندن أن تنشر تقريراً تحت عنوان «زيارة مرسي تعيد للأذهان العلاقات التاريخية مع جماعة الإخوان المسلمين»، وأرفقت الصحيفة بالتقرير صورة لحسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» وهو يقبل يد الملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس المملكة، أثناء زيارته للسعودية في ثلاثينيات القرن الماضي. من الممكن بالطبع اعتبار أن نشر تلك الصورة جاء عفوياً، وأنه لا يرمي إلى إعطاء انطباع معين عن طبيعة نظرة الحكم السعودي لجماعة «الإخوان»، لكن استعراض الأجواء التي صاحبت نشر الصورة يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه يستهدف إعطاء انطباع معين وتوصيل رسالة محددة. فقد سبق تلك الزيارة تصريح شهير من قائد عام شرطة دبي اللواء ضاحي خلفان يشير إلى تلك الواقعة تحديداً، ويستهدف الرئيس المنتخب مرسي مباشرة بالقول: «مرسي سيأتي حبواً للخليج ويقبل يد خادم الحرمين الشريفين، كما فعل حسن البنا مع الملك عبدالعزيز». تلك أكبر وأوضح إهانة مباشرة يتلقاها رئيس أو مسؤول مصري رفيع من مسؤول خليجي منذ ثلاثة عقود على الأقل. لم يعتذر خلفان، ولم تعتذر الإمارات، رغم أن الخارجية المصرية استدعت سفيرها وطلبت توضيحاً، لكن الأنكى من ذلك أن خلفان واصل تصريحاته ذاتها بتنويعات مختلفة؛ ومن بين ما قاله إن «اختيار مرسي غير موفق»، وهو تدخل نادر في الشأن الداخلي لمصر من قبل مسؤول خليجي رفيع. لطالما صرح خلفان تصريحات مثيرة للجدل، وآخرها كان ضد إيران كما اعتاد دائماً، حيث هددها بما أسماه «القوة الجوية الضاربة لدولة الإمارات»، معتبراً أن بلاده لو أرادت حرباً لـ»أحرقت الأخضر واليابس» (...). يمكن تفهم أن خلفان، القابع في دبي، يُسمح له بهامش أوسع من ذلك الذي يحظى به أي مسؤول في أبوظبي في ما يتعلق بالقضايا السيادية وعلى رأسها العلاقات الخارجية، لكن لا يمكن أبداً افتراض أن تلك التصريحات تخرج من خلفان وتتكرر من دون مباركة وقبول من الدولة الاتحادية وهيكل السلطة الأساسي بها. يتعزز هذا بالطبع بالأنباء الواردة عن ملاحقات إماراتية لناشطين من «الإخوان»، تلك الملاحقات التي اتخذت طابعاً هو الأكثر حدة في تاريخ تلك الدولة المسالمة والمستقرة، حيث تم اعتقال البعض، وإدانة آخرين بأحكام قضائية، وتجريد البعض من الجنسية، بتهم متعددة تتعلق بممارساتهم السياسية. السعودية ليست أقل عداءً لـ»الإخوان المسلمين» بالطبع، ولعل ذروة التعبير عن الموقف السعودي الرسمي من الجماعة تتضح في تصريحات ولي العهد السابق ووزير الداخلية والرجل القوي في النظام قبل رحيله الأمير نايف بن عبدالعزيز، حينما وصف «الإخوان» بأنهم «أصل البلاء ومصدر كل المشكلات في العالم العربي والإسلامي». لا يقتصر الأمر على السعودية والإمارات فقط؛ فثمة افتراق جوهري بدأت تظهر ملامحه في الكويت بين الجماعات السياسية المحسوبة على «الإخوان» وبقية الجسم السياسي، كما تتزايد المخاوف في أوساط عديدة من «تأثيرات» في الحالة السياسية الكويتية جراء وصول جماعة «الإخوان» إلى الحكم في مصر. لا يمكن بالطبع تصور حصول توافق استراتيجي بين دول الخليج العربية وجماعة «الإخوان المسلمين»؛ فتلك الدول تريد أن تحافظ على شرعية نظمها الحاكمة، وتضمن أكبر قدر ممكن من الاستقرار الأمني والسياسي والتماسك الاجتماعي، في ظل خطوات بطيئة ومدروسة لتعزيز مشاركة سياسية لا تنال من الطبيعة المحافظة في الدولة والمجتمع. لكن جماعة «الإخوان» تمتلك «مشروعاً أممياً»، يقوم ببساطة على إنشاء «دولة الخلافة»، حيث «الإسلام وطن»، وحيث «الولايات الإسلامية المتحدة»، التي لن تترك لدول الخليج حقاً في الدفاع عن «الدولة الوطنية» وأنظمتها القطرية الحاكمة بشكلها الراهن. لذلك، فقد رشحت الأنباء عن تأييد معظم دول الخليج للمرشح الخاسر أحمد شفيق في الانتخابات الرئاسية المصرية عبر تقديم بعض الدعم غير المنظور، ورغم ترحيب تلك الدول المعلن بالرئيس المنتخب، فإنها من دون شك تعرف أن مصالحها الاستراتيجية، كما تشخصها، كانت ستصبح في حال أفضل إذا استمر نظام مبارك أو أُعيد إنتاجه على يد شفيق. ستضغط دول الخليج على مرسي بملفات العمالة المصرية، والقروض والمنح والمساعدات، والسياحة والاستثمار، لتضمن عدم «تصدير الثورة» إليها، وعدم اتخاذ قرارات خطيرة في الملف الفلسطيني يمكن أن تلهب المنطقة وتعرض الاستقرار الإقليمي للخطر من وجهة نظر تلك الدول. وسيضغط مرسي على دول الخليج بالعلاقات مع إيران و»حزب الله» و»حماس» وقواعد «الإخوان» في المنطقة، وسيحاول أن يبقي الخطوط مفتوحة مع تلك الجهات لضبط إيقاع التفاهم مع دول الخليج. وسواء نجح مرسي في حسم الصراع الذي يخوضه على السلطة مع «المجلس العسكري» في مصر أو راوح في مكانه «رئيساً من دون صلاحيات كاملة»، وسواء استطاع الوصول إلى علاقات طيبة مع دول الخليج على طريقة «الحل الوسط» أو دخل في متاهات التضاغط والتجاذب والصراع، فإن العلاقات بين الخليج و»الإخوان» لن تكون، على الأرجح، مستقرة أو جيدة، وبالتالي فإن العلاقات المصرية- الخليجية ستدخل مرحلة «عدم اليقين» بعد ثلاثة عقود من الاستقرار والنمو. * كاتب مصري