غرفة البتول
ذات مرة في وقت متأخر من بعد منتصف الليل، ذهبت إلى باب الحد في ذلك المكان المعتم، في تلك الأزقة الضيقة حتى وصلت إلى منزل البتول، وأنا أسأل وأتساءل وصلتُ، أمام الباب كان يقف شاب طويل، داكن البشرة، عملاق بالأحرى، سدّ عليّ الطريق ورأيت في عينيه، تحت ضوء خافت، حياته الضائعة: نصلان يلمعان، من محجرين، يأكلهما البياض الخفيف، مستعدان تماما للانقضاض على الضحية الذي هو أنا. من جانبي غريزة الكائن استيقظت، الخوف فرّ من مكانه، الحواس كلها تجمعت تحت ضوء لامع يشبه ضوء القمر، عندما يكون بدراً.- شنو بغيت؟
- بغيت للا البتول.- تعرفها؟-لا، ما كنعرف هاش.- واخا. في تلك «الواخا» لا أقول سمعتُ ورأيتُ، ضعف الكائن البشري بل طيبته.عندما فُتح الباب نظرتُ بعينين حادتين إلى ذلك العملاق، الواقف كالصخرة أمام احتسابات المصير، كان النصلان قد ماتا في بئر عينيه.استقبلتني البتول، ذات العين الكريمة الواحدة والبالغة من العمر آنذاك في حدود الـ38سنة، واكتشفت أن البتول كانت تدير أجمل غرفة استرخاء في العالم، بحنكة ودربة، ودرايةِ بأعماق الكائن، بحيث تستقبل المعذبين في الأرض، من الفنانين والمثقفين، لكي تسمعهم في آخر الليل وتحت ضوء الشموع الموسيقى، وكانت الموسيقى إما شرقية: أم كلثوم، أسمهان، عبدالوهاب وما شاكل ذلك، أو مغربية تبدأ من الملحون وتنتهي بالكناوي. لا أحد يرقص، لا أحد، يتململ، لا أحد يجرؤ على الإتيان بمعصية تُغضب عينها الوحيدة، الباقية التي تدور في محجرها مثلما يدور في مجراه الفلك. كانتِ البتول، تدير غرفتها، عالمها، كما لو كانت قبطان سفينة، يعرف كيف يتحكم بالأمواج والريح واتجاهات الكون الأربعة، كل هذا بعين واحدة لكي يمتحن الخالق مصيرها ومصير ضيوفها المتعبين في آخر الليل في مدينة الرباط.ماتت البتول بعد غيابي عن المغرب بسنوات طويلة، تلك السنوات كانت كافية الآن كي استذكر الرجل العملاق الداكن البشرة في الزقاق الضيق المعتم، وأنا اخرجُ من منزل البتول كي أسأله:- واه، شكون أنت؟ - أنا ابنها، فهمتي ولا ما فهمتش.- نعم، لقد فهمت!