اعتاد الرؤساء الأميركيون عموماً على السعي إلى ترسيخ إرثهم في الملفات الخارجية بعد الإخفاق في معالجة الملفات المحلية. ينطبق هذا الأمر على الرؤساء خلال ولايتهم الثانية تحديداً. بعد أن يفقدوا الزخم اللازم محلياً، هم يميلون إلى التركيز على الخارج بحثاً عن أزمات لا يستطيع حلّها إلا الأميركيون.

Ad

لكن يبدو أن باراك أوباما يخطط لتطبيق مقاربة معاكسة في بداية ولايته الثانية. يركز أوباما وفريقه على إنشاء إرث محلي، لكنهم يخشون أن تعوق الالتزامات الخارجية ذلك الهدف. قد يستفيد أوباما من وضعه على الأرجح لأنه ضمن إرثاً عالمياً في يوم انتخابه منذ أربع سنوات وسط أجواء احتفالية في أنحاء العالم، وقد بلغت إنجازاته ذروتها حين حصل على جائزة نوبل للسلام بعد أقل من سنة على وصوله إلى السلطة مع أنه حقق ذلك، لأنه لم يكن جورج بوش الابن بكل بساطة.

خلال حملة عام 2012، كسب أوباما أعلى درجات الإشادة حين تعهد بإعادة القوات العسكرية من أفغانستان، فأنهى بذلك حرباً دامت أكثر من عشر سنوات وكلّفت حياة آلاف الأميركيين وأكثر من تريليون دولار. كان يعلن بشكل متكرر أن "الوقت حان لبناء الوطن محلياً"، وكان الناس من حوله يهللون له عند سماع هذا الكلام. في مقالة صحافية نُشرت في 23 نوفمبر، شدد رئيس موظفي البيت الأبيض السابق، رام إيمانويل، على هذه الفكرة. فاعتبر إيمانويل الذي أصبح الآن رئيس بلدية شيكاغو أن الديمقراطيين يجب أن يعززوا قدرة الولايات المتحدة التنافسية على الساحة العالمية. قد يعني ذلك إصلاح المدارس الفاشلة والطرقات الوعرة وشبكات الإنترنت الشائبة أو نظام توافد المهاجرين. لكن بغض النظر عن معنى تلك الإصلاحات، يجب أن تتركز مهمة الرئيس خلال ولايته الثانية على "العودة إلى الديار وإعادة بناء الولايات المتحدة".

لكن لا يكف العالم عن طلب المساعدة. بدءاً من غزة وصولاً إلى سورية والأردن ومصر وإيران والمياه المتنازع عليها حول الصين حتى منطقة اليورو، وتهدد جميع هذه الأزمات الخارجية بإعاقة مسار أوباما.

بدأت مصادر الإلهاء تتكاثر منذ الآن. ركز أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون بقيادة جون ماكين (مرشح سابق للرئاسة في عام 2008) على البيانات التي أصدرها مساعدو أوباما بعد مقتل السفير الأميركي في ليبيا خلال شهر سبتمبر، وقد تجاهل الكثيرون احتمال تورط إرهابيين مرتبطين بتنظيم "القاعدة" وفضلوا التركيز على تقارير أولية (وخاطئة) تربط بين عملية القتل والاحتجاجات على فيلم مسيء للإسلام. لاتزال التفاصيل مبهمة لكن الاتهامات واضحة. يظن الجمهوريون أن فريق أوباما حاول، قبل أسابيع من الانتخابات، إخفاء الأنباء التي تقلل من شأن المسألتين الخارجيتين اللتين اعتُبرتا مصدر نجاح لأوباما في ولايته الأولى: استعمال قوة أميركية محدودة للمساعدة على إسقاط نظام القذافي في ليبيا واستهداف "القاعدة" عبر استعمال الطائرات بلا طيار والقوات الخاصة. في 27 نوفمبر، هدد عضوان في مجلس الشيوخ بإعاقة ترقية مسؤولين كانوا قد أصدروا بيانات بشأن حادثة ليبيا، بدءاً من السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة سوزان رايس، وهي أبرز مرشحة لتولي منصب وزيرة الخارجية بعد هيلاري كلينتون. بغض النظر عن هوية الفائز بهذا المنصب، يجازف أوباما بإهدار رصيده السياسي.

إنقاذ العالم ليس من مسؤوليته

عند معاينة الوضع الخارجي، من الملاحظ أن الحذر سيد الموقف. يقول كبار المسؤولين إن أوباما يريد أن "يحافظ على وجوده شرط ألا يبالغ في التورط" حول العالم. هم يعتبرون الولايات المتحدة "المحرك الضروري" للأحداث وحجر الأساس للنظام الدولي المبني على القواعد والقدرة التنافسية الاقتصادية (قد تدخل اتفاقيات التجارة الحرة ومسألة التغيير المناخي في إطار هذا النظام). من خلال إضعاف إرث بوش المبني على الردود العسكرية الشاملة بعد اعتداءات 11 سبتمبر، حرر أوباما "نطاق الأمن القومي" بهدف الالتزام بقضايا العالم رغم جميع تعقيداتها. هذه التجربة هي عبارة عن اختبار يشمل التزاماً سياسياً كلياً يتجنب التدخل الجزئي. من الناحية السياسية، يُقال إن التحرك الفاعل ضد "القاعدة" منح أوباما بعض المساحة: لم يعد الديمقراطيون دفاعيين في مجال الأمن القومي.

لكن يسود حذر هائل بشأن الالتزامات العسكرية الواسعة. في ما يخص سورية، تظن الحكومة أن 80 إلى 90 عضواً في مجلس الشيوخ يشككون في خيار التدخل المباشر. لكنّ الجمود لا يرضي مسؤولين آخرين. برز مؤشر على ذلك حين طلبت تركيا حديثاً من حلف الأطلسي نشر أنظمة "باتريوت" المضادة للصواريخ على حدودها مع سورية. في واشنطن، تمنى بعض المسؤولين أن تمهّد هذه الخطوة لفرض حظر جوي على سورية. لكن اعتبر الجنرالات أن هذه الفكرة غير عملية.

داخل الحكومة، يسود جدل حول نجاح استراتيجية أوباما الخارجية في الصمود في وجه اضطرابات العالم. تبقى عناصر هذا الجدل مألوفة. بعد نهاية الحرب الباردة، تجادل الأميركيون حول صحة قبول لعب دور "شرطة العالم". عام 1993، صرّح كولن باول أمام مجلس الشيوخ بأن الجميع يتوقعون من الولايات المتحدة أن تهبّ للمساعدة حين يطلب العالم النجدة. كانت مادلين أولبرايت هي التي وصفت الولايات المتحدة بـ"الدولة التي لا يستغني عنها العالم" حين عُيّنت وزيرة الخارجية الأميركية في عام 1996 وسط جدل واسع حول صحة التدخل في يوغوسلافيا السابقة.

لا أحد يشجع على العودة إلى الطموحات الجامحة التي طبعت حقبة بوش بعد الاعتداءات الإرهابية في عام 2001. يشبه الجدل الراهن ذلك الجدل الذي ساد في التسعينيات. لكن يبدو سياق الجدل قاتماً وغير مألوف هذه المرة. مقارنةً بحقبة التسعينيات، تبدو الولايات المتحدة وحيدة اليوم. في تلك الفترة، كان الأميركيون يأملون أن يصبح الاتحاد الأوروبي شرطة ثانية للعالم. كذلك، تحدث البعض عن تحوّل الصين وروسيا إلى "مساهمين مسؤولين" في النظام العالمي الجديد. ثم تبين أن أقصى ما تطمح إليه أوروبا هو تولي مهمة تدريب شرطة العالم. اليوم، أصبح الاتحاد الأوروبي مفلساً ومنشغلاً بمشاكله الخاصة، وبالتالي هو لا يستطيع تحقيق شيء عدا تقديم بعض المساعدة وفرض العقوبات على إيران. تشكك روسيا من جهتها في الأهداف الأميركية وتنشغل الصين في مساعيها لتحقيق مصالحها الخاصة. حتى أشرس المدافعين عن عقيدة التعاون بين أوروبا الغربية وأميركا الشمالية يشعرون بالتشاؤم. يواجه حلف الأطلسي "وضعاً مزرياً" أيضاً وقد استنزف حدوده المالية والعسكرية والسياسية بحسب رأي كيرت فولكر، سفير أميركي سابق في حلف الأطلسي.

ستنشأ أزمات جديدة حتماً، لكن سيتعارض الوضع مع نزعة أوباما إذا انجرت الولايات المتحدة إلى تلك الأزمات بشكل مبالغ فيه. لدى الرئيس خطط محددة ولكنها تتمحور حول إصلاح الولايات المتحدة لا العالم.