فجر يوم جديد: الثقة... الوقحة
أتاح لي اقترابي من «مطبخ» اثنين من المهرجانات السينمائية العربية؛ «القاهرة» الذي كنت مديراً لمركزه الصحافي وعضواً في مكتبه الفني، و{الإسكندرية لدول حوض البحر المتوسط» الذي تدرجت في مواقعه القيادية المختلفة، فرصة ثمينة للاقتراب من آلية اختيار الأفلام التي تمثل مصر في المسابقة الدولية... ورأيت العجب. الظاهرة الأولى التي لم أتوقعها أن ثمة شركات إنتاج سينمائي كانت تتهرب عن عمد وترفض المشاركة بأفلامها مفضلة استجداء موافقة المهرجانات الدولية، حتى لو كانت إقليمية، على المشاركة في فاعلياتها، طمعاً في رحلة مدفوعة الثمن شاملة السفر والإقامة، ولا يهم وقتها الفوز بجوائز، لأنها ترفع، زيفاً وبهتاناً، شعار «التمثيل المُشرف» الذي لا تحققه ... على الجانب الآخر، ينظر بعض الشركات إلى المهرجانات السينمائية المصرية باستعلاء يصل إلى درجة الازدراء، ويتعامل باستخفاف لا يليق لدرجة أنه يراوغ في تحديد موعد لأعضاء لجنة المشاهدة للحكم على مستوى الفيلم، وتقدير مدى صلاحيته للعرض في المهرجان، وغالباً ما تتذرع هذه الشركات بأن «الفيلم مش جاهز»، وعلى اللجنة، إذا أرادت، أن تشاهده مجبرة من دون أن يكتمل بعض عناصره الفنية؛ مثل الموسيقى التصويرية و{الميكساج»، وفي هذه الحالة تصبح مطالبة بأن «تتخيل» صورته النهائية.
في المقابل، تُلح شركات أخرى على المشاركة، لأنها أول من يعرف أن فيلمها «تحت المستوى»، وأن اختياره للعرض في المسابقة الدولية، ممثلاً للسينما المصرية، سيحقق مكاسب معنوية، وربما مادية، كثيرة، ومن ثم تستميت في الاتصال بإدارة المهرجان، محاولة إقناعها بالموافقة على تفويض لجنة لمشاهدة الفيلم المرشح، وعندما تستجيب الإدارة، بحسن نية أو لأسباب تعلمها وحدها، يكتشف أعضاء اللجنة أنهم ضيعوا الوقت في ما لا طائل من ورائه، وأن العمل ينتمي إلى نوعية أفلام «بير السلم» مجهولة الهوية، وأن مجرد التفكير في اختياره يعني توريط المهرجان في «فضيحة» كاملة، و{كارثة» بالمقاييس كافة، لأن تسلله إلى المسابقة الدولية، التي تخضع أفلامها لتقييم لجنة تحكيم تضم مبدعين من جنسيات عالمية عدة، يدفع الجميع إلى الظن أنه «نموذج» للسينما المصرية، و{خير ما يمثلها» . كنت أتصور، لفرط سذاجتي، أن الظاهرة انتهت تماماً مع النضج الذي اعترى السينمائيين، والطفرة التي اجتاحت السينما العالمية، وانعكست على المستوى المُبهر، تقنياً وفكرياً، الذي يُعلن عن نفسه في المهرجانات الدولية، غير أنني فوجئت في الأسبوع الماضي بأنني مدعو إلى الانضمام إلى لجنة مُشكلة لتقييم أحد الأفلام التي أنتجتها شركة تعمل في السياحة، وتعرض مشاركته في مهرجان سيبدأ أعماله في منتصف هذا الشهر، وفي الموعد المحدد التزمت مقعدي في قاعة المشاهدة، وبعد خمس دقائق من متابعة الأحداث اكتشفت أنني في صدد «سهرة تلفزيونية» ليس أكثر، بل يمكن القول من دون مبالغة إن مشاريع تخرج الهواة في فصول الدراسات الحرة ومعاهد السينما أفضل كثيراً في مستواها الفني والفكري من العمل الذي قيل لنا إنه «فيلم»، وتبين لنا أنه مثال صارخ للتردي الفني والرؤية المختلة والغائمة، التي لا تتبين معها الهدف من إنتاج العمل الذي فشلت الشركة المنتجة، في الغالب، في تسويقه عبر القنوات الفضائية فأرادت أن تعوض إخفاقها بتقديمه للمهرجان، وبلغ طموحها درجة غير مسبوقة بتفكيرها في ترشيحه لتمثيل مصر في المسابقة الدولية. أهو الغرور الزائد أم الطموح غير المشروع؟ أكبر الظن أنها «الثقة الوقحة»، التي تعكس جرأة في غير مكانها، وتهافتاً غير مبرر، بل فهماً مضطرباً لقواعد الفيلم السينمائي، ومقتضياته، وعجزاً صارخاً عن فهم طبيعة المهرجانات، والسوية الفنية التي ينبغي أن يتحلى بها الفيلم المؤهل للمشاركة في المسابقات المختلفة للمهرجانات، والمسابقة الدولية على وجه الخصوص، ومع هذا تصلح، الثقة التي أشرنا إليها، كوسيلة لابتزاز إدارات مهرجانات تبحث عن أي فيلم لتسد نقصاً كبيراً في مسابقاتها الرسمية. وضعت يدي على قلبي خشية أن تحظى «السهرة» بإعجاب بقية أعضاء اللجنة، نظراً إلى أن القرار يُتخذ، في مثل هذه الحالات، بالأغلبية غير أن شعور الاستياء لم يفارق أعضاء اللجنة، وجاء قرار الرفض ليعكس قناعة تامة لدى الجميع. الواقعة تكررت كثيراً غير أن الطريف فيها أن الشركة المنتجة لم تستسلم لقرار الرفض، وقبل أن يصل إلى الصفحات الفنية والإعلام، بادرت بتسريب خبر تؤكد فيه أنها «انسحبت لأنها عجزت عن ترجمة النسخة إلى الإنكليزية حسبما تنص لائحة المهرجان» أو «آثرت المشاركة في مهرجان سينمائي آخر ذائع الصيت»... وفي الحالتين تشهد الصحف ووسائل الإعلام أكبر عملية تغرير بالقراء والمشاهدين.