دمار المكان وتدمير الكاتب!

نشر في 14-08-2012
آخر تحديث 14-08-2012 | 00:01
 طالب الرفاعي قلبي مشدود بخيوط سرية إلى بلدي! كل بقعة في بلدي هي قطعة من قلبي، وحين ينصبّ غضب إنسان متوحش على زاوية في بلدي، فمؤكد أن آثار ذلك الغضب المجنون ستضرب قلبي، وتزلزل روحي.

قرأت في الملحق الثقافي لجريدة السفير اللبنانية، في عددها رقم 12255 ليوم الجمعة، 10 أغسطس الجاري، كتابات لكل من: نبيل سليمان، شوقي بغدادي، ياسين الحاج صالح، مها حسين، عارف حمزة، هيثم حقي، هيثم حسين، محمد فؤاد، عبدالله عيسى، نهاد سيريس. كما نشر الشاعر أدونيس مقالاً في جريدة "الحياة"، يوم الخميس 9 أغسطس بعنوان "تنويعات على آلام المتنبي في حلب"، وإذا كانت نبرة الموقف السياسي حيال ما يجري في سورية تختلف من كاتب لآخر، وأنا أزعم أنني أتفهم جداً ما خلف تلك المواقف، فإن وجعاً يقطّع القلب، راح ينزّ من كلمات أولئك الكتّاب، وهم يرثون مدينة حلب الشهباء، مدينة ذكرياتهم العزيزة، وحيواتهم الموجعة، وكيف أن إنساناً تخلى عن إنسانيته واستحال وحشاً، راح يُخرب أنحاءها، ويضرب قلبها، ويدمر قلوب أهلها.

كيف لدمار مكان أن يدمر قلب إنسان؟

المكان هو الوعاء الذي يحوي ذكريات حياتنا. لا إمكانية لانعقاد حدثٍ بعيداً عن المكان، فحتى الأحداث الخيالية تحتاج مكاناً ليدور حدثها عليه، وحتى أحلامنا تختار زواياها الحبيبة لتنعقد فيها. ولأن مأزق الحياة الأكبر هو أن لحظتها تُعاش مرة واحدة، ولا شيء يبقى من تلك اللحظة العابرة بعد تبخرها إلا صورها المحفورة في لحم القلب بسعاداتها وبؤسها. فسرعان ما يخطف القلب تلك اللحظات ليذرّ عليها أصباغه البهية والمعتمة، ويحملها ليخزّنها في أدراج القلب والروح.

إن جنون الحروب الإنسانية، عبر التاريخ، كان يأخذ الإنسان حطباً لتنور ناره، ولا يتورع عن تدمير المكان معتقداً أن لا حياة للحجر. لكن تلك الحروب الكريهة، إذ تقطف أحبابنا فإنها لا تكتفي بلوعة قلوبنا بفقدانهم المؤلم، بل تقسو أكثر حين تدمر أمكنة بعينها احتوت لحظات حيواتهم، واكتسبت معنى آخر يتجاوز الحجر إلى الحس والذكرى والعزاء.

أي حاكم تخلى عن إنسانيته، ليبادل عرش كرسيه البائس بدمار شعبه وبلده؟

أي حاكم ممسوس ذاك الذي يشتري بقاءه الزائل، بزوال تاريخ بلده؟

أي حاكم ذاك الذي يتخذ من قتل الآخر ثمناً لقتل فنائه المؤكد؟

إن تدميراً بشعاً، يُمارس بشكل يومي، ليأخذ البشر والحجر في وجهه منذ اندلاع الثورة في سورية. ووسط كل أوجاع القتل والفقد والدمار، يبرز وجعٌ مدبب، بإصرار الدكتاتور الحاكم على المضي حتى آخر المشوار، وإصراره على تدمير كل شيء ظناً منه أن ذلك كفيل بتأمين بقائه، ناسياً أو متناسياً أن القتل أعجز بكثير من تأمين الحياة! وأن كل طغاة العالم، أعملوا أدوات قتلهم الهمجية في البشر كل البشر، وفي الحجر كل الحجر، لكن الحق العاري وحده ظل مخرزاً يفقأ عيونهم، ويسير في درب البطولة لحصد النصر الأكيد.

إن تقطع قلوب أصدقاء كتّاب لا يمتلكون إلا أن يعبّروا عن مضِّ الوجع في أرواحهم، إنما يقول أوجاعاً فوق طاقة البشر، ويثبت في سجل التاريخ أن بإمكان الطاغية أن يدمر، لكنه أعجز من أن يمسّ ذكريات الإنسان، وأعجز بكثير من أن يمحو ذاكرة أمة.

نعم، الدكتاتور أكثر قدرة من المبدع الكاتب على التدمير، لكن الكاتب المبدع أكثر بقاءً من الدكتاتور، وهو على النقيض منه، فإذا كان الدكتاتور يشتري بقاءه بنثر الموت، فإن المبدع يلملم أشلاء الحياة المبعثرة ليبني منها نصاً شاهداً على ما يجري، وقادراً على البقاء عمراً أطول بكثير من أعمار البشر.

back to top