حتى لو أن القمة الإسلامية الأخيرة لم تنجز إلا "مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية"، الذي دعا خادم الحرمين الشريفين إلى إنشائه، فإن هذا يعني نجاحاً باهراً، فالمشكلة التي بقيت متواصلة، ربما منذ فتنة صدر الإسلام، أن أهل هذه المذاهب لا يعرف بعضهم بعضاً وأنهم في غالبيتهم بقوا يعتمدون، في اتخاذ مواقفهم، في هذا الصعيد المهم والخطير جداً، على مفاهيم وثقافة عصور الانحطاط وعلى شائعٍ موروثٍ لا علاقة له إطلاقاً بحقائق الأمور.

Ad

لا يعرف كثيرون من أهل السنة، حتى على مستوى بعض رجال الدين الذين نصّبوا أنفسهم كناطقين باسم المذاهب الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، عن المذهب الجعفري الإثني عشري قبل أن يحكم وبعدما حكم في إيران إلا ما كتبه عن هذا المذهب بعض "الانطباعيين" الذين اعتمدوا على روايات ملفقة غير صحيحة وعلى كتابات متحيزة سلفاً، وعلى ما انتهى إليهم من مواقف عنصرية فارسية اتخذت من التشيع غطاءً لنزعاتهم الشعوبية القديمة.

لا يجوز لأي من أتباع المذهب الجعفري الإثني عشري أن يتخذ معركة القادسية، التي أدخلت أهل فارس في الإسلام العظيم وحررتهم من عبادة النار ومن الاعتقاد بالخزعبلات، مبرراً للتهجم على العرب وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، فهذا المنطلق الشعوبي الذي، وللأسف اتسع وتعمق بعد انتصار الثورة الإيرانية (الخمينية)، هو منطلق متعصبي القومية الفارسية الذين مازالوا يحنون إلى إمبراطوريتهم بامتداداتها وتوسعها في المنطقة والذين هم في دواخل أنفسهم يتخذون موقفاً سلبياً ضد الإسلام، لأنه قضى على هذه الإمبراطورية. والمعروف أن الخطوة الحاسمة في هذا الاتجاه كانت معركة "القادسية" العظيمة التي هي انتصار للدعوة الإسلامية العظيمة وانتشارها، وليست انتصاراً للعرب كقومية عنصرية، وذلك مرفوض سابقاً ولاحقاً، وحتى الآن.

وفي المقابل، فإن هناك جهلاً طاغياً من قطاع واسع من أتباع المذهب الجعفري الإثني عشري، حتى على مستوى رجال الدين وأصحاب العمامات السوداء، تجاه أهل السنة وتجاه المذاهب السنية، وكذلك تجاه مواقف السلف الصالح والخلفاء الراشدين، وبخاصة سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب، والإمام علي بن أبي طالب و"بِضْعة" رسول الله فاطمة الزهراء رضوان الله عليهم جميعاً، ولقد تعزز هذا واتخذ أبعاداً قومية فارسية في ذروة استفحال الشعوبية، وبعد ذلك في عهد الدولة التي أسسها إسماعيل الصفوي، صاحب فرية ولاية الفقيه التي يتصدى لها عدد من كبار آيات الله من المراجع الشيعية.

وهذا لا يقتصر على السنة والشيعة فهناك أيضاً جهلٌ من أهل السنة بالتحديد بباقي المذاهب الإسلامية وبخاصة المذهب "الأباضي"، الذي يحسب على "الخوارج" زوراً وبهتاناً، والمذهب الزيدي في اليمن الذي هو مزيج من المذهب الحنفي وفكر ومفاهيم محمد الباقر إضافة إلى المذهب الإسماعيلي الذي تشتت وتحول إلى فرق لا حصر لها، ولاشك في أن بعضها قد حاد عن الطريق وخرج من الدائرة الإسلامية... وهنا فإننا نسمع في هذه الأيام كلاماً عن الطائفة العلوية ما أنزل الله به من سلطان ولا يعرف أصحابه أن هذه الطائفة قد انشقت عن المذهب الجعفري الإثني عشري عند الإمام الحادي عشر الذي هو الحسن العسكري، وأنه لا صلة لها إطلاقاً بعلويي تركيا ولا بعلويي المغرب العربي، وأن اسمها حتى عام 1918 كان الطائفة النصيرية، وأنها أُعطيت هذا الاسم الحالي من قبل المستعمرين الفرنسيين لأسباب لا مجال لشرحها الآن.

ولهذا فقد جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين لإنشاء مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية في هذا الوقت البالغ الخطورة والبالغ الأهمية، فوقف كل هذا التمزق في الجسم الإسلامي يحتاج إلى أن يفهم المسلمون بعضهم بعضاً وأن يتحدوا بدون اتخاذ أي موقف سلبي ضد غيرهم، وبخاصة أشقاؤنا المسيحيون الذين هم منَّا ونحن منهم، وأن يبدأوا بأن يتعارفوا ويتعرفوا إلى حقيقة المذاهب الإسلامية، وأن يعترف كل مذهب وبخاصة السنة والشيعة (المذهب الجعفري الإثني عشري) بالمذاهب الأخرى، فالآن هي اللحظة المناسبة، ولقد وفّر الملك عبدالله بن عبدالعزيز فرصة تاريخية يجب عدم إضاعتها، بل يجب استغلالها للخلاص من موروث يستند إلى الجهل بالآخر، وعلى روايات تاريخية ظالمة وغير صحيحة.