المصادفة الجيدة ليست أُمّنا الرّحوم الرؤم،

Ad

إنها لا تُرضعنا من ثديها سوى مرّة واحدة فقط،

كل مصادفة جيدة تفطمنا بعد رضعة واحدة لا تكرّرها، وهذه الرضعة إما أن تمنحنا الحياة وننمو بفضلها، أو أن تعدّ تلك الرضعة ضمن الحليب المسكوب على الأرض.

المصادفة السعيدة لا تولد في حياة كل منا إلا مرّة واحدة، قد تولد مصادفات أخرى غيرها إنما ليست هي، قد تُولد هي مرة أخرى في حياة شخص آخر، إنما ليس ذات الشخص، وليس لنا أن نلوم المصادفة على فعلها ذلك، فتلك طبيعتها التي هي جوهر اسمها،

تكرار حدوث المصادفة يسلب اسمها،

يغيّر البيانات الشخصية في هويتها،

يزوّر بصمة أصابعها،

تكرار حدوث المصادفة يجعلها ضمن الزبائن الدائمين لدى عيادات جراحي التجميل، ومن ضمن الذين لديهم ملف لا يطوى في مراكز إعادة تأهيل السلوك، تتغير حينها المصادفة شكلاً ومضموناً...

وتحمل هوية جديدة باسم جديد وملامح مختلفة،

المصادفة فعلاً هي عود الثقاب الذي لا يشتعل إلا مرة واحدة، والأوفر حظاً وربما ذكاءً فينا، هو ذلك الذي يوقد من عود الثقاب ذاك حطباً في مدفأته، أو يعرف طريقه في وسط الظلام الحالك إلى مفتاح الإضاءة،

قد تتكرر المصادفة في غفلة من طبعها، وعلى عكس طبيعتها، إلا أن ذلك يحدث أيضاً مصادفة، وفي حالات نادرة جداً، وربما بمكرمة خاصة من القدر لأحدنا.

ولكن لماذا تضيع في كثير من الأحيان تلك المصادفات الجيدة؟!

ولماذا لا نحسن غالباً استغلالها والاستفادة منها؟!

لماذا تفر كالماء من بين أصابع عمرنا؟!

لماذا مثلاً نخطئ اقتناص حالة حب؟!

أو لحظة اكتمال قمر؟! أو اشتعال برق فرحة غير منتظرة؟! أو الاستمتاع بأغنية نسيتها حمامة على شبّاكنا في الصباح، ولا نفطن لذلك إلا بعدما عادت والتقطتها في المساء؟!

المفاجأة أحياناً تكبّل قدرتنا على التفكير وتُفقدنا القدرة على حسن التدبير،

المصادفات الجيدة أحياناً تضيء مثل البرق الذي يخطف أبصارنا قبل أن يعيدنا مرة أخرى للظلام!

ومن الحكمة التي تركها لنا أجدادنا أنه عندما يضيء البرق لا تنظر للسماء مفتوناً بمنظر البرق، بل انظر إلى الأرض مسرعاً لتعرف موقع خطوتك التالية،

كن على يقين بأن البرق لا يضيء لأجلك، وإنما لاستعراض جماله، وسيُسرّ كثيراً عندما يعلم أن جماله سرق انتباهك، ولو كان ذلك على حساب بصرك، ونحن يجب أن نكون أذكى من لعبة البرق تلك، إذ علينا أن نستفيد من "طاووسيته" لصالح مصيرنا، كذلك المصادفات الرائعة التي تباغتنا على حين غرّة، من الحكمة ألا ننشغل بروعتها للدرجة التي نفوّت استغلالها لصالحنا، جمال تلك المصادفات قد يصيبنا بغيبوبة لا نفيق منها إلا بعد فوات الأوان.

إذن صدمة المفاجأة قد تجعلنا نفوّت الاستفادة من المصادفات الحسنة، إلا أن بعضنا لا يفوت ذلك لهذا السبب، بل لأنه يعتقد أن تلك المصادفات أُمّه التي ستُرضعه حليبها إلى أن يكتفي، وهذه باعتقادي ليست إلا إحدى الصور النقيّة... للسذاجة!