في العام نفسه، 2011، عام الثورات العربية، عام الربيع العربي والتظاهرات السلمية الشعبية العربية التي هزّت العالم، وغيّرت صورة الإنسان العربي لدى الآخر. والتي خرجت فيها الشعوب العربية تنادي بالحرية والكرامة والديمقراطية، وتستبدل الموت والمذلة بالحياة الخيرة والكريمة، وتقف عارية الصدر تواجه عنف ووحشية ودكتاتورية الأنظمة العربية القمعية الطاغية والمستبدة. جرى، على الضفة الأخرى بهدوء وروية، حدث فكري وثقافي مختلف في الوقع والدلالة، يحمل من المعاني الإنسانية المتطورة والمبدعة، ما يستوجب التوقف عنده، والتملي في معانيه الكبيرة والكريمة.

Ad

بتاريخ 16 يناير 2011، أصدر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى للاتحاد، حاكم الشارقة، مرسوماً أميرياً بشأن "إنشاء لجنة ثقافة بلا حدود في إمارة الشارقة". وهي لجنة "تتمتع بالاستقلال المالي والإداري بالقدر اللازم لتحقيق أغراضها"، و"تهدف إلى توزيع مكتبة لكل أسرة مواطنة في الإمارة، وتعمل على تشجيع عادة القراءة، وتوفير الكتاب لمختلف شرائح المجتمع، لبناء قيم إيجابية تتفق مع التوجهات التربوية والثقافية والعلمية، ونشر الثقافة وتعزيز دور الكتاب في الإمارة".

يبدو المشروع لافتاً، ليس على مستوى إمارة الشارقة ودولة الإمارات العربية، وليس على مستوى أقطار الوطن العربي، لكنه جاء لافتاً عالمياً في عصر الفضاء المفتوح، وثورة المعلومات والاتصال، فهو في هدفه الأسمى ومحصلته النهائية، يطمح إلى دمج الفرد مع الحرف والكلمة والعلم والفكرة والوصل والانكشاف على الآخر. وتحمل الدلالة بعداً آخر، حين ينبري الحاكم المسكون بهاجس الكتاب والعلم والمعرفة، وبفكرة خلق علاقة ملموسة بين مواطنيه والكتاب، إلى إجراء إحصاء لبيوت كل منطقة في الإمارة، ومن ثم تخصيص مكتبة لكل بيت، يتولى فريق مدرب القيام بتوزيع المكتبات الجميلة مزودة بخمسين كتاباً متنوعاً يشمل شتى فروع المعرفة والأدب، وبما يجعل من المكتبة زاداً حاضراً على مائدة كل أسرة. بل ان المشروع يتجاوز ذلك بتوزيع المكتبات والكتب المتخصصة على مختلف إدارات الدولة، مما يعزز من مكانة الكتاب، ويخلق علاقة يومية حميمة بينه وبين المواطن، حيثما كان!

إن نظرة فاحصة على المشروع، توضح أن أحياءً بكاملها في الإمارة تمتعت بمزايا المشروع، واحتفلت بفرح غامر بحصول كل بيت على مكتبة مزوّدة بالكتب، وان عدداً كبيراً من هذه الكتب يذهب لمخاطبة وعي ومخيلة وذائقة الطفل، ذخيرة المستقبل الأجمل، وبما يُعد تأهيلاً فعلياً لأجيال قادمة، تنشأ وقد توطدت علاقتها بالكتاب والمعرفة، وخطت إلى الدخول إلى نبض العالم من بوابة الكتاب الواسعة، ولا أظن أن وصلاً بالعالم أهم وأجمل من وصلٍ بكتابٍ وصورة وعلمٍ مستنير.

كم تبدو المقارنة فاضحة، بين حاكم عربي مستبد يرسل جنده وآلة قمعه الوحشية لقتل أبناء شعبه، وهدم البيوت على رؤوسهم، ودفنهم أحياء تحت أنقاضها، وبين حاكم يؤمن بالإبداع والفكر والمعرفة والكتاب والمثاقفة، ويرصد الميزانيات الضخمة، ويتولى بنفسه الإشراف على توزيع هدايا باقية لمواطنيه، ويتصل بهم ويحضر بينهم عبر مكتبة وكتاب.

يمكن الحديث عن الأمية بوصفها أحد أهم أسباب تخلف أقطار الوطن العربي، خصوصا أن إحصائيات اليونسكو، تذهب إلى أن نسبة الأمية في بعض البلدان العربية تصل إلى قرابة (65%). وإذا ما تكلمنا عن أمية المتعلمين، أولئك الذين تنقطع صلتهم بالكتاب والقراءة بمجرد حصولهم على الشهادة، واشتغالهم وانشغالهم بهموم الحياة، فإن وجود مكتبة وكتاب على القرب من العين واليد والمتناول، يجعل من الوصل بالمعرفة شأنا يوميا محببا، فتحية من القلب وتقدير مستحق لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، وتحية مماثلة لكريمته الشيخة بدور القاسمي التي ترعى بنفسها المشروع الجميل والمتفرد!