كان الثغاء الرتيب قرين حزني
هذا كتاب بعنوان "تاريخ ووقائع كتاب الأغاني"، صدر عن دار Sheep Meadow للشاعر الإيطالي أمبريتو سابا (1883-1957). الغريب والجديد في الكتاب أن سابا كتبه سيرة نقدية عن الشاعر سابا. كتبه دون أن يشير إلى أنه كتبه عن نفسه. لقد تقمص شخص ناقد موضوعي في دراسة وتأمل شاعر آخر يكن له احتراماً وإعجاباً كبيرين (كم يحن الشاعر إلى جرأة كهذه!). وهذا المنحى ليس غريباً على سابا، فشعره ونثره وحياته تنضح جميعاً بمذاق الكيان الشعري الغريب والمتعارض. فقد ولد من أم يهودية وأب مسيحي تخلّى عنه قبل مولده. في مرحلة المراهقة كان يقلد صوت الشاعر الكلاسيكي الكبير ليوباردي، ولكنه كان أيضاً عازفاً على الفايولين في فرقة موسيقية، وينتمي إلى تجمعات من الفنانين التشكيليين، والكتاب والصحافيين ذوي الاتجاه الاشتراكي.كان يشعر بهذه الفرادة المتوحدة. في إحدى قصائده يكتب لأمه: ""... أعتقد بأن مهدي صُنع من خشب مختلف/ وأن روحي تواقة لعلامة لا يتوق إليها أحد من أصدقائي". وكان لا يُخفي عداءً مستحكماً للمرأة: ""لا أؤمن بالمرأة. وبهذا الرأي لا أهدف إلى الإهانة/ ولكن إذا ما كان للرجل عدو يُذكر/ فهو دائماً المرأة...". على أن نظريات العداء للمرأة كانت منتشرة آنذاك بفعل كتابات الفيلسوف أوتوويننغر خاصة في كتابه "الجنس والشخصية" 1903، والتي أصبحت موضة رائجة بين مثقفي الطبقة الوسطى آنذاك. صار سابافي في تلك المرحلة بالغ التأثر بويننغر، ونيتشه وفرويد. ولولا هؤلاء المفكرين لما تمتع سابا بصورة "الشاعر الصادق" التي اتصف بها.
عاش حياة شاعر جوال سنوات عدة، ولم يكن يشعر مطلقاً، كإنسان وكشاعر، بالتوافق والاستقرار في أي مكان يحل فيه. واسم "سابا" مستعار اتخذه بعد أن تقلب في أسماء مستعارة عدة. فهو أمبيرتو بولي في الأصل، ثم أمبيرتو شوبان بولي، ثم أمبيرتودامونتريال، ثم أمبيرتو لوبي، وأخيراً استقر على اسم أمبيرتو سابا.وبالرغم من هذا السياق الطليق الفالت فإن سابا كان يؤكد أن للشاعر عادة قاعدتين اثنتين ضروريتين: امتحان الذات الدائم، والاذعان للموروث الشعري. وهذا الاذعان للموروث الشعري هو الذي ميز سابا عن أقرانه من حداثيي المرحلة. فإذا كان الشاعر أونغاريتي مأخوذاً بتصفية لغته من الزوائد لإيصالها إلى الحد الأدنى مما هو جوهري، ومحاولة شحذ نصه الشعري إلى درجة الغموض المتأصل في نسق الكلمات الصافية، وإذا كان مونتالي ينغم قصيدته دون قالب وزني، ويحطم سياقها الإيقاعي حيث يشاء معتمداً على الصورة وعلى التورية، فإن سابا استغرق عميقاً في أنغام وقوافي الموروث الشعري في مغامرة بدت جديدة، ووجهاً من أوجه الحداثة.عند وفاته عام 1957 صار يُعتبر أحد الثلاثة الكبار من شعراء إيطاليا القرن العشرين إلى جانب أونغاريتي، ومونتالي. ولكنه دونهم لا ينتسب الى أي تيار أو مدرسة، في مرحلة كانت تضج بالتيارات والمدارس الشعرية. حين سأله أحد أصدقائه: "لأي حزب تنتمي؟ أجاب: إلى حزب التحليل النفسي". بروح مداعبة.ولد سابا في مدينة "تريستة" ذات الميناء الكبير في الشمال الشرقي من إيطاليا. مؤلف لأكثر من 15 كتاباً شعرياً وآلاف من صفحات النثر، على أن سابا عُرف بكتابه الشعري الجامع والأكثر شهرة :"كتاب الأغاني"، الذي يشبه كتاب "الكانتوس" لإزرا باوند، أو كتاب "أوراق العشب" للأميركي ويتمان. لأنه كان يضيف إليه، ويعيد نشره على الناس في طبعات عدة. ولقد وضع كتابه السيري النقدي عن نفسه باعتباره "تاريخاً ووقائع" على هامش هذا الديوان.كان سابا شاعر البساطة الصعبة والسهل الممتنع. كتب مونتالي عن إحدى مجاميعه عام 1926: "هنا نرى أكثر الخصائص التي يتمتع بها شعر سابا المبكر أصالة، فالموسيقى الشعرية مجردة تقريباً من اللدانة والارتياح العالي، ابتهاج في الأداء الذي يبدو مألوفاً، ولكنه في حقيقته كثير الغرابة: كلمات تتلاشى في الصفحة حالما يُطلق سراحها، من أجل أن تخلق خلفية لا يمكن وصفها".إلى ماعز تحدثتُ. كانت وحيدة في المرعى، ومحاصرة.مُتخمة بالعشب، ومنقوعة بالماء، تثغو.كان الثغاء الرتيب قرين حزني.أجبت مازحاً أول الأمر، ولكن الحزن أبدي،لا صوت له ولا يتغير،سمعته عويلاً لماعز متوحد.في ماعز بوجه سام،سمعت كل ألم آخر يُعول، كل حياة أخرى.