التغني بالزمن الماضي
أن نقيم معارض أو مهرجانات نستذكر فيها الماضي ونلاقي فيها من باعدت الدروب بيننا وبينهم، ونتسامر عن تلك الأزمان فذلك أفهمه لأنه ما زال يعيش بيننا من عاصر ذلك الزمان، وأي مواطن عاش في الكويت قبل 70 عاماً عاش عصراً مختلفاً يحنّ بالتأكيد لعلاقاته وعاداته، لكنني وغيري لا نريد لذلك الزمن أن يعود ولا نريد أن نعيش حال التقشف والفقر والجهل ومشقة الحياة التي عشناها في ذلك الوقت مهما قيل عن طيبة الناس وأخلاقهم حينها. ولذلك أستغرب من الذين يطالبون الناس بالعودة إلى حياة الصحابة وزمان السلف الصالح ونشأة القبيلة على أساس أنها أفضل وأجمل من الحياة الحديثة.
كيف يمكن لإنسان يعيش في مكان مكيف وكل أجهزة العصر بين يديه ويجد العالم بين يديه، ولديه أفضل ما أنتجه العلم من وسائل المعيشة والاتصال والمواصلات والتعلم والترفيه بضغطة زر، ويتمنى أن يعيش في خيمة في أجواء الصحراء وبدون أي من هذه الأجهزة؟ منْ من الداعين إلى التقشف والعودة إلى زمن الإسلام الأول والبداوة في عصورها القديمة يذهب إلى عمله على جمل أو يحج على حمار أو يعيش على فردة تمر؟ الكلام سهل لكننا في التطبيق العملي لا نصلح لذلك الزمان ولا ذلك الزمان يصلح لنا، ونحن ما صدّقنا أن تركنا عصر ما قبل النفط، والعيش بدون كهرباء، وماء وسخ ينقل على أبوام وسخة من شط العرب، وقلة أنواع المأكولات والمشروبات وبداءة مواقع الترفيه. إن البعض يردد مثل هذا الكلام ليدغدغ به مشاعر من عاشوا تلك الفترة، وخاصة أبناء القبائل ليدعي أنه من السلف الصالح، وأن الإنسان القبلي يتوق إلى تلك الحياة، ولكن مما يؤسف له أن كثيرا من الكتّاب يخلطون بين البداوة والقبلية، ولا يرون أن البداوة انتهت ولم يعد في جزيرة العرب من كان يطلق عليهم البدو، فكل سكان الجزيرة العربية دخلوا عصر المدنية، وغادروا الصحراء إلى البيوت المكيفة المجهزة بكل أدوات العيش الحديث، ولم تعد الصحراء إلا مكاناً للقنص والراحة في الإجازات أو لتجار الجمال والأغنام أو هواة تربيتها.رجال القبائل الكويتية والعربية الأخرى حضر متعلمون يمارسون حياة الحضر بكل مزاياها ومشاكلها، وما القبيلة إلا الوعاء الذي يحفظ تاريخ وعلاقة أبنائها، وأصبحت للأسف وسيلة للضغط السياسي وجمع كلمة القبيلة حول مرشحيها للمجالس المنتخبة أو للضغط من أجل التوزير في الحكومة. هي قبائل حضرية ولو طلبت من أحد أفرادها أن يترك المدينة ليعيش في الصحراء يبحث عن الماء ويرعى الغنم لاتهمك بـ"الخبل".وقد استغلت الأحزاب الدينية تشكيلات القبائل وحرص أبناؤها على التماسك، واخترقت معظمها واختارت منها من أدخلته الأحزاب ودخلت به الانتخابات باسم القبيلة، وصار هؤلاء مع أؤلئك يدعون إلى العودة إلى زمن الصحابة والتقشف في وقت أعطانا الله من متع الحياة ورفاهيتها، ما يستوجب الشكر والعناية. ولعل أبسط دليل على قصور تلك الدعوة أن المسلمين صاروا يحجون ويعتمرون مستخدمين وسائل المواصلات الحديثة رغم وجود نص يقول إن المسلمين سيتوجهون للحج مشاة أو على ظهور الحمير والخيول والجمال. استخدم الإنسان عقله وحج بالمواصلات الحديثة ولو صاح دعاة هذه الأيام ليلا نهارا بالحج مشياً أو على كل ضامر لاتهمهم الناس بالعته والجنون ومخالفة العصر والحضارة.نعم أريد أن أتذكر الماضي لأنه فترة شبابي، ولكني بالتأكيد لا أريد أن أعود إليه... تلك أيام الله لا يعيدها.