الدكتور رفعت السعيد، في كتابه عن «الليبرالية المصرية»، يستعرض تاريخ وأعلام الليبرالية المصرية والعربية، فيتحدث عن «جمعية مصر الفتاة»، التي كان رئيسها جمال الدين الأفغاني، وكان من بين أعضائها أديب إسحق، وسليم نقاش، وعبدالله النديم.

Ad

وكان أديب إسحق (1856-1885)، من رواد الحرية والليبرالية «الشوام» في العالم العربي، الذين هاجروا إلى مصر من سورية، هروباً من الاضطهاد العثماني.

أعلام ورواد الليبرالية العربية

وكان أديب إسحق، من تلاميذ جمال الدين الأفغاني في الفلسفة، والمنطق، وقد أنشأ في القاهرة جريدة «مصر»، وجريدة «التجارة»، ثم غادر إلى باريس، وأنشأ هناك جريدة «مصر القاهرة»، وكان شاعراً وناثراً مشهوراً، وترك لنا عدة آثار شعرية ونثرية.

أما سليم نقاش (1885-1917)، اللبناني، فكان من الأوائل الذين نادوا بالقومية العربية والليبرالية، وطالبوا بالحرية والاستقلال من المستعمر العثماني للعالم العربي، وكان من تلاميذ جمال الدين الأفغاني، وهاجر إلى مصر كذلك، وتعاون مع أديب إسحق في المسرح، وترجم عدة مسرحيات من الفرنسية إلى العربية، وساهم مع أديب إسحق في تأليف العديد من المسرحيات وتمثيلها في الإسكندرية، وأصدر مع أديب إسحق جريدة «التجارة»، والتي نشر فيها جمال الدين الأفغاني بعضاً من مقالاته.

من رواد الليبرالية المصرية

وكان أشهر هؤلاء عبدالله النديم (1843 - 1896) الشاعر والناثر والخطيب المفوّه، وكانت الخطابة والصحافة سبب شهرته الكبيرة دون شك، وعلو صيته على معاصريه من الليبراليين القدامى، فقد أصدر جريدة «التنكيت والتبكيت» الشعبية باللغة العامية، كما أصدر جريدة «الطائف»، كما أن اشتراكه في الثورة العُرابية، ونفي الاستعمار البريطاني له، نتيجة لذلك، قد زاد من شهرته، وشعبيته.

ويقول عنه رفعت السعيد في كتابه «الليبرالية المصرية»:

«كان النديم مفتاح السر الجماهيري لثورة عُرابي، واستطاع أن يترجم أماني الجماهير، وطموحاتها، في جُمل منسّقة، سلسة، وسهلة الفهم، يصوغها شعراً ونثراً، فيخلب ألباب البسطاء، ويستطيع أن يقودهم تحت الراية العُرابية». (ص 31).

أبواب الليبرالية المختلفة

يطرق رفعت السعيد في كتابه المذكور، عدة أبواب لليبرالية المصرية-العربية بإيجاز شديد، لكي يستطيع أن يغطي في كتابه، أكبر عدد ممكن من الليبراليين الناثرين والشعراء، كذلك. فمصر في القرنين الثامن والتاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين، كانت تعجُّ بالنشطاء الليبراليين من المصرين، والعرب «الشوام»، وبعض العراقيين والمغاربة، الذين لجؤوا إليها، كدار آمنة، من ملاحقة الاستعمارين العثماني والفرنسي، للمناضلين الليبراليين، الأحرار.

فيقول السعيد عن ثورة عُرابي 1879-1882 إنها كانت «الليبرالية المسلحة»، التي أعلنها الجيش بقيادة الثائر القائد أحمد عُرابي، وخطيب الثورة عبدالله النديم، ضد الخديوي توفيق، والاحتلال البريطاني.

وظهرت بوادر الثورة في فبراير 1881 إثر سجن أحمد عُرابي، وعبدالعال حلمي، وعلي فهمي، وقد قام الجيش بها أولا، لتنفيذ مطالبه، وهي عزل وزير الحربية عثمان رفقي؛ والذي ظلم الضباط المصريين. ونتج عنها موافقة الخديوي –مُرغماً- على عزل عثمان رفقي، وتعيين محمود سامي البارودي بدلاً منه.

وبعد سبعة أشهر من العام نفسه، اندلعت الثورة العُرابية مرة أخرى، وشملت المدنيين من جميع فئات الشعب، وكانت بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، والتدخل الأجنبي في شؤون مصر، ونمو الوعي القومي، وشارك الشعب المصري بكامل طوائفه مع الجيش بقيادة عُرابي، الذي أعلن مطالب الشعب للخديوي توفيق، وكانت تتلخص في زيادة عدد الجيش إلى 18000 جندي، وتشكيل مجلس شورى النواب على النسق الأوروبي، وعزل وزارة رياض باشا.

ولكن رد الخديوي القاسي والصارم كان: «كل هذه الطلبات لا حق للشعب فيها، وأنه ورث مُلك هذه البلاد عن آبائه وأجداده، وما الشعب إلا عبيد إحسانات العائلة المالكة». ورد عُرابي قائلاً: «لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً، فو الله الذي لا إله إلا هو، لن نُورَّث، ولن نُستعبد بعد اليوم»... واستجاب الخديوي لمطالب الأمة، وتشكَّلت حكومة جديدة برئاسة محمود سامي البارودي، وشغل عرابي فيها منصب وزير الحربية. وانتصرت الليبرالية المسلحة آنذاك.

الليبرالية الصاخبة والمتعثرة

وأما الصنف الثاني من الليبرالية، فكان «الليبرالية الصاخبة المتعثرة»، التي قادها المهاجر اللبناني والمفكر المسيحي شبلي شميّل، وشميّل كان من الليبراليين المسيحيين الذين اضطهدوا ثلاث مرات مضاعفة!

فمرة من قِبل العثمانيين، ومرة ثانية، من قِبل غير المسيحيين، ومرة ثالثة من قِبل الكنيسة المارونية لمخالفتهم لبعض ما جاء في الكتاب المقدس.

وزاد سخط العثمانيين على هؤلاء الليبراليين، عندما طالبوا بعزل رجال الدين عن السياسة، وعدم السماح لهم بالتدخل في الشؤون السياسية، وكان السلاطين العثمانيون– كما هو معروف، وكما عرضناها في كتابنا [عصر التكايا والرعايا: وصف المشهد الثقافي لبلاد الشام في العهد العثماني (1517-1918)]- يخضعون تمام الخضوع للمؤسسة الدينية العثمانية، التي كانت تسيطر كذلك على الجيش العثماني الانكشاري، ولكن الليبراليين في مصر من هؤلاء الصاخبين، لم ينالوا قسطاً كبيراً من التأييد والدعم الجماهيري، لميولهم الغربية، ومناداتهم بتبني الكثير من مظاهر الحياة الغربية، مما أغضب الشعب المصري منهم.

الليبرالية المكتملة

أما فرح أنطون (1874-1922) المفكر المسيحي اللبناني الآخر، الذي هاجر إلى مصر عام 1897 هرباً من الاضطهاد العثماني، وجرياً وراء مدافع عُرابي الليبرالية، وملاقاةً لمجموعة كبيرة من الليبراليين المصريين والليبراليين «الشوام» المهاجرين من الشام إلى مصر، فقد وصفه السعيد بأنه صاحب الليبرالية المكتملة. وعناصر هذا الكمال في ليبراليته، هي:

1 - صدق قول فرح أنطون من أن الحرية والديمقراطية تتطلب شعباً راقياً، قبل أن تتطلب زعيماً صادقاً.

2 - الثقافة الإنسانية الشاملة التي كان يتمتع بها فرح أنطون، والتي ظهرت واضحة في تمثيلياته ومقالاته، التي كان يكتبها في الصحف المصرية التي كان يشترك في تحريرها كصحيفة «البلاغ المصري»، و«اللواء»، و»مصر الفتاة»، و»الوطن»، وغيرها من صحف القاهرة والإسكندرية.

3 - تزعمه للاتجاه العلمي، وتفسيره للتخلف العربي تفسيراً تاريخياً علمياً.

4 - مناداته بإبعاد رجال الدين عن القرار والشأن السياسيين. وضرورة تركيزهم على الإرشاد والوعظ الدينيين فقط.

(وللموضوع صلة).

* كاتب أردني