فجر يوم جديد: الاتجار في السينما العربيَّة!
أتاحت لي الظروف الطيبة فرصة حضور إحدى دورات بينالي السينما العربية، التي كان ينظمها معهد العالم العربي في باريس. شهدت بنفسي كم «الصخب الجميل» الذي كان يملأ أرجاء المبنى الواقع بين ضفاف السين وجامعة جوسيو في الدائرة الخامسة من باريس. تأسس المبنى عام 1980 وفتح أبوابه عام 1987 نتيجة اتفاق بين 22 دولة عربية ودولة فرنسا، ليُصبح مؤسسة ثقافية تعرّف بثقافة العالم العربي وحضارته، وتولي اهتماماً كبيراً برعاية الحركة البحثية التي تتناوله، وتُسهم في توطيد العلاقات بين فرنسا والعالم العربي بعيداً عن الهيمنة الأميركية.
نجح المعهد فعلاً في أن يتحول إلى جسر ثقافي حقيقي بين أبناء الشعب الفرنسي وبين المبدعين العرب، وجاء «بينالي السينما العربية» ليُعزز تلك الأهداف الثقافية بعدما نجح في تحقيق تواصل إبداعي غير مسبوق، وقرَّب العالم العربي بطقوسه وقيمه وتقاليده إلى الفرنسيين. كذلك أتاح للمواطن الفرنسي، الذي لا تمكنه ظروفه الاقتصادية من السفر وشد الرحال إلى الدول العربية، النظر إلى أيام «البينالي» على أنها فرصة للتزود بالثقافة والمعرفة والتعرف إلى حضارة العالم العربي وواقعه المعاصر، من خلال الأفلام التي أتاحها بفضل جهود مخلصة من ماجدة واصف (مسؤولة السينما في المعهد آنذاك) التي حرصت على تمثيل تيارات السينما العربية ومدارسها كافة، ولم تترك نفسها فريسة لشوفينية مقيتة أو عنصرية بغيضة. في تلك الدورة التي دعيت لحضورها اختص ناصر الأنصاري، مدير المعهد العام العربي آنذاك، جماعة الإعلاميين والصحافيين بلقاء بثّ فيه همومه وأوجاعه، والأهم مخاوفه من احتمال توقف أنشطة كثيرة في المعهد، وعلى رأسها «بينالي السينما العربية»، بسبب الأزمة الاقتصادية التي يعانيها المعهد، وطالبنا بأن نستثمر منابرنا الإعلامية «المرئية والمكتوبة» لمخاطبة حكومات الدول العربية للإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه المعهد، كي لا يتم إجهاض أهداف المعهد النبيلة، وفاجأنا جميعاً عندما أعلن أن «الجماهيرية الليبية»، إبان حكم «الأخ العقيد»، جاءت على رأس قائمة الدول العربية التي توقفت عن سداد حصتها! لم يمض على ما قاله الأنصاري سوى عام تقريباً، حتى أصيب محبو السينما وعشاقها في العالم العربي وفرنسا بخيبة أمل وصدمة بعد اختفاء «بينالي السينما العربية» من خارطة المهرجانات السينمائية التي أدت دوراً كبيراً في تعريف العالم بأسره، وليس الفرنسيين فحسب، بالعربي «الإنسان»، وليس»الإرهابي الدموي» الذي سعت الدوائر الصهيونية والسينما «الهوليوودية» إلى تكريس صورته بين شعوب العالم. بإغلاق «البينالي» انهار منبر ثقافي عظيم الشأن عجزت المهرجانات البديلة، التي تأسست في روتردام والسويد وبرلين وبروكسل... وغيرها عن ملء فراغه، بل إن الغالبية العظمى منها استثمرت اختفاءه لتنظِّم مهرجانات للسينما العربية تتربح من ورائها. ومن مهرجان إلى آخر تسقط أقنعة، وتتكشف فضائح عن تورط بعض الداعين إلى إقامة هذه النوعية من المهرجانات في أعمال سمسرة. ذلك كله يدعونا إلى المطالبة مجدداً بعودة «بينالي السينما العربية» ليحقق أهدافه من ناحية، ويوقف من ناحية أخرى جريمة «الاتجار في السينما العربية» التي لا تقل بشاعة عن جريمة «الاتجار في البشر». فلا يمكن النظر إلى ما يحدث في مدن أوروبية على أيدى بعض العرب المهاجرين بأنه تعبير عن حب مُجرد من الغرض للوطن الأم أو عشق مُنزه عن الهوى للسينما العربية، بعدما أثبتت الوقائع أن معظمها تحول إلى «سبوبة» كما يقول المصريون، أو «صفقة مشبوهة» بلغة رجال السياسة والاقتصاد! المطالبة إذاً بعودة «بينالي السينما العربية» ليست رفاهية أو حنيناً مرضياً إلى مهرجان اختفى في ظروف غامضة، بل رغبة في الحفاظ على هدف استراتيجي، وأرضية ثقافية يرجع إليها الفضل في تعريف الغرب بمبدعينا وثقافتنا، خصوصاً أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يمر بها معهد العالم العربي لن تُحل بإغلاق «البينالي»، وإنما بالبحث عن بدائل كثيرة على رأسها كيفية تسويق «البينالي»، وحث الدول العربية على الإيفاء بالتزاماتها، وسداد مخصصاتها؛ فاليمين الفرنسي، الذي ينظر إلى الثقافة بوصفها «سلعة»، لن يتحرك لإنقاذ معهد العالم العربي من أزمته، والدوائر التي تتربص بالمعهد كي لا يتحول إلى «لوبي عربي» في عاصمة التنوير لن تتركه يمارس دوره، وفي أفضل الأحوال ستشجعه على إقامة معارض للفنون التشكيلية ليس أكثر!