يقول جبران:

Ad

"لا تعش نصف حياة

ولا تمت نصف موت...

إذا رضيت فعبّر عن رضاك

لا تصطنع نصف رضا

وإذا رفضت... فعبّر عن رفضك

لأن نصف الرفض قبول...

النصف هو حياة لم تعشها

وهو كلمة لم تقلها

وهو ابتسامة أجّلتها

وهو حب لم تصل إليه

وهو صداقة لم تعرفها...".

نتقابل... نتصافح... ونتبادل سيل الأسئلة التقليدية "شلونك؟ شاخبارك؟ شلون الأهل؟ شمسوين؟"... دون أن نتكلف عناء الإنصات للإجابة، وتأتي الإجابة على السيل الراد من نفس الأسئلة بنفس الميكانيكية "الحمد لله تمام... ما نسأل إلا عنكم"، دون أي تأنيب ضمير، ونستمر كل في طريقه لنعود إلى قوقعتنا وعوالمنا الخاصة.

سلاماتنا فارغة، أحضاننا باردة، وأحاديثنا مصطنعة، فرغم كثرة الزيارات والمناسبات الاجتماعية، وبتوافر أدوات ووسائل التنقل والاتصال والتواصل، ورغم قنوات التواصل الاجتماعي الإلكتروني نبقى في عزلة، ولا علاقة لحجم شبكاتنا الاجتماعية وتاريخ معارفنا بمدى ارتباطنا بالآخر، ولا رابط بين حجم الأسرة وتردد تجمعاتها بشعورنا بالحب والانتماء، ولا يتعدى عمق "الصداقات" المصالح الاجتماعية والمالية المتبادلة.

"النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك

وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك"

نحفظ منصب الآخر ولا نفهم قدراته أو إمكاناته، نعرف أصله وفصله وحسبه ونسبه ولا نتفهم شخصيته وميوله أو حقيقة قيمه وأخلاقه، لا نتردد في طلب الخدمات و"الواسطة"، ولكن كرامتنا تمنعنا من الاعتراف بالحاجة إلى أذن صاغية أو كتف نبكي عليه.

لذا نعيش في مجتمعات وعلاقات كثيفة، ولكن نبقى وحيدين لا أحد يعرفنا حقا ولا أحد يشعر بنا.. لنا قناع لكل مناسبة وفي كل تجمع حتى نسينا وجوهنا الحقيقية، ونغطي ذواتنا الهشة بمساحيق المكياج وأغلى الإكسسوارات حتى اختلط تعريف من نحن بما نملك.

نعيش ولا نحيا، نملك ولا نستمتع، نسمع ولا ننصت، نتكلم ولا نفضي، فما النتيجة؟ كائنات غنية مادياً وفقيرة روحياً، مشغولة وغير منتجة، اجتماعية ومنعزلة، مبتسمة ومكتئبة، فكيف نتوقع منها العطاء أو حتى التفاؤل؟

كيف لمن لا يفهم نفسه أن يحب الآخر؟ بأي حق نتوقع ممن لا يعرف نفسه أن يميز أو يتقبل الآخر؟ هل يجد الحل من أضاع القدرة على الرؤية؟ هل يمنح الأمل من فقد الرغبة في الحياة؟

فكما يستطرد جبران:

"النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز...

لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان...".

يتميز الإنسان عن بقية الكائنات بوعيه بذاته وبتقديره لنفسه؛ رغبة الإنسان بالرضا عن نفسه وتحقيق ذاته هي ما تدفعه إلى التقدم والرقي عن الحيوان الذي يكتفي بسد غرائزه الرئيسة من مأكل ومأوى وتكاثر... الإنسان القويم المعتز بنفسه لذاتها هو إنسان شفاف ومشرق ومقبل على الحياة... لا يقبل بنصف حياة... فقط بعودة هذا الإنسان تعود الحياة إلى مدن الجليد.