فشل المصريون في التوصل إلى فلسفة الوجود عند أجدادهم الفراعنة، والمتمثلة في عبقرية بناء الأهرامات الثلاثة، كذلك فن التحنيط الذي يُعد سر الأسرار، لكن نجح الحكام والمسؤولون المصريون على مر العهود وامتداد السنين في السير على نهج عادة قديمة وذميمة عرفها الفراعنة تتمثل في استهلال «الفرعون» عهده بمحو آثار الفرعون السابق وطمس منجزه، وإهالة التراب على كل ما يُشير إلى فترة حكمه!

Ad

شيء من هذا القبيل فعله د. صابر عرب وزير الثقافة المصري أخيراً عندما انقلب على قرار وزير الثقافة الأسبق عماد أبو غازي برفع العبء عن الدولة، وتحرير مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ومهرجانات أخرى، من وصاية وسطوة وسيطرة وزارة الثقافة، وترك الفرصة للجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني ومنظماته لإدارة المهرجانات في مقابل تعهد وزارة الثقافة بتحمل سداد نصف الميزانية المحددة لأي مهرجان، بعد التأكد من مطابقته الشروط والمعايير المحددة.

لم يلق القرار هوى لدى د. صابر عرب وزير الثقافة، الذي أغضبه في ما يبدو استقلال الكيانات الثقافية والمهرجانات الفنية بعيداً عن هيمنة وزارته، وتشبث بالسير على نهج سلفه فاروق حسني، الذي كان لا يفوت فرصة من دون أن يستثمرها لإدخال المثقفين «حظيرة وزارة الثقافة» بحجة أنها السبيل الوحيد لـ «فتح بيوتهم»! وانتهز فرصة صدور حكم ابتدائي من محكمة القضاء الإداري (بوقف تنفيذ قرار وزارة الثقافة بإسناد إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي إلى مؤسسة «مهرجان القاهرة السينمائي» التي يترأسها الناقد السينمائي الكبير يوسف شريف رزق الله، وإلزام الوزارة بإعادة الإعلان عن إسناد إدارة المهرجان بين المؤسسات والجمعيات المتخصصة وفقاً لشروط ومعايير شفافة، وفتح الباب مجدداً لمن يرغب في التقدم لتنظيمه على أن يبحث مجلس إدارة المجلس القومي للسينما الملفات المقدمه ويختار منها الأنسب)، وبدلاً من أن ينتظر الاستشكال الذي يتم نظره مطلع سبتمبر المقبل، استمع إلى وشاية عدد من أصحاب المصالح ممن اعتادوا تبادل المنفعة مع الإدارة القديمة التي أطاح بها قرار «أبو غازي»، وأعرب عن نيته إعادة «الحرس القديم»!

يرى البعض في ما يجري «بالون اختبار» ليس أكثر، بينما يرى آخرون أن وزير الثقافة لجأ إلى هذا «الحل السحري» لإنقاذ الدورة المقبلة للمهرجان، التي تنطلق نهاية نوفمبر المقبل، من الإلغاء. لكنه حل كسيح لا يليق بوزير الثقافة ومستشاريه، إذ كان بمقدورهم إسناد المهمة استثنائياً إلى مجموعة العمل، التي يترأسها رزق الله، بعد نجاحها في إنجاز كثير من المهام التي تُسهم في خروج الدورة المقبلة إلى بر الأمان، كالاتفاق مع أعضاء لجنة التحكيم الدولية، وتلقي أكثر من 200 فيلم من مختلف أنحاء العالم، ما يعني أن الطريق أصبح ممهداً لإقامة دورة ناجحة بالمقاييس كافة، وهو{الحل التوافقي» الذي يحفظ للوزارة هيبتها، ويضمن للمهرجان استمراره في التمتع بالصفة الدولية، ويحميه من شر «الفتنة النائمة» في أروقته بين المعارضين والمؤيدين لعودة «الحرس القديم»، وعلى رأسه سهير عبد القادر، التي غادرت موقعها، بعد قيام الثورة التي لم تعترف بها يوماً!

في الأحوال كافة، ينبغي التأكيد على أن قرار عودة «الحرس القديم»، في حال صدوره فعلاً، يعني اعترافاً صريحاً من وزارة الثقافة المصرية بالعقم والجدب وفقر «الكوادر»، ويُسهم في جهة أخرى منه في «تأجيج الفتنة» و{تصفية الحسابات» وبدء مرحلة «الثأر من الخصوم»، ما سيؤدي في النهاية إلى انهيار المهرجان الوحيد في الشرق الأوسط الذي يحمل الصفة الدولية، التي أعادها إليه الكاتب الكبير سعد الدين وهبة إبان رئاسته له، ويسعى البعض اليوم إلى تقويض أركانه بالخلافات والمنازعات التي تحركها مصالح شخصية ضيقة، لا تستهدف مطلقاً الصالح العام، وهو ما يُنذر بعواقب وخيمة لن يتحول المهرجان خلالها إلى «ضحية للبيروقراطية» وأنما سيدمر نهائياً أية رغبة في استقلال النشاطات الثقافية، ويُجهض الأمل في تأسيس هياكل كياناتنا الثقافية والفنية بمعزل عن السلطة، وبعيداً عن تدخل أذرعة الحكم «الأخطبوطية» ليبقى الجميع في «الحظيرة»!