سؤال طريف وجّهه مقدما أحد البرامج الإذاعية إلى مستمعيهما يقول: لماذا الماضي دائما أجمل من الحاضر؟!
وتوالت الاتصالات على البرنامج من قبل المستمعين والتي جاءت في معظمها مؤيدة وجهة النظر تلك ومعللة ذلك بأسباب عديدة ومكررة في ذات الوقت، كأن يقال إن الماضي أجمل لأن الناس كانوا أنقى، أو انهم كانوا أطيب، أو ان الناس كانت تتعامل مع بعضها ببساطة وبنوايا حسنة، أو أن الحياة في الماضي أقل تعقيداً... إلخ هذه الجمل الرتيبة والمملة من كثرة تكرارها. والحقيقة أن معظمنا لديه هذا الشعور، وهذا الإحساس بأن الأمس أكثر جمالا من اليوم، وربما أيضا أن معظمنا يردد نفس العبارات السابقة أو أخرى مشابهة لها تبرير لوجهة النظر هذه، وأظن أن من لديه هذا الاعتقاد مسكين ويستحق الشفقة فعلا. لو عدنا للسؤال المطروح من قبل البرنامج لوجدنا أن حتى من طرح السؤال بهذه الصيغة مسكين و»غلبان» لأن صيغة السؤال بحد ذاتها تحمل نفس الاعتقاد، فالسؤال لم يطرح بهذه الصيغة مثلا: إيهما أجمل الماضي أم الحاضر، ولماذا برأيك؟! بل ان السؤال يفترض أساسا أن الماضي أجمل من الحاضر، والمطلوب فقط معرفة السبب، أي ان السؤال يوجه تفكير المتلقي باتجاه يفترض صاحبه أنها حقيقة لا تقبل الجدل! الطامة الكبرى برأيي عندما سألت المذيعة أحد المتصلين بعد إسهابه في تعداد ميزات الماضي مقارنة بمساوئ الحاضر وقالت له: هل تعتقد أنك ستندم غدا على اليوم وتتمنى لو أنه عاد، أجاب المستمع جازما بأن ذلك ما سيحدث! يا لضياع عمر هؤلاء، إنهم مساكين لا يكادون يستمتعون بلحظة من أعمارهم، حتى إذا ما أصبحت تلك اللحظة مركونة على رف من رفوف الماضي نظروا إليها بحسرة وتمنوا أن تعود لهم ليعطوها قدرها، ويعطوا أنفسهم فرصة الاستمتاع بها، وهكذا هم إلى أن تنفد جميع اللحظات من أعمارهم، ويبقى السؤال قائماً:هؤلاء المساكين متى سيشعرون بقيمة اللحظة التي يعيشونها قبل أن تفوت؟! متى يتوقفون عن استنكاف الثمرة التي تملأ أياديهم، ثم يبكون عليها بعد أن يخطفها الزمن من بين أياديهم ويتركها للعفن وهم ينظرون؟! إلى متى تشوّه لهم عقولهم قطرة الماء التي في أفواههم ويمجوننها قرفا، ثم يطاردونها بعد أن تصبح سرابا؟! إلى متى سيبقون أسرى للظمأ؟! الماضي ليس جميلا إلا كصورة معلقة على حائط العمر، ولكنه ليس العمر، الماضي ليس سوى كائن كانت لنا معه حياة، ولكنه ليس الحياة. الماضي إن كان جميلا فهو ليس إلا زهرة من فيض الربيع ستذبل ثم تموت، ولكنه ليس الربيع، فالربيع لا يموت. نعم نحن نفلتره، وننقّيه، ونصفيه، ونمكيجه، ونلبسه أجمل الملابس بالضبط كما يفعل البعض مع موتاهم قبل أن يضعوهم في التابوت... ليدفنوهم، ولكنهم لا يدخلون القبور معهم، نحن أيضا لا يجب أن ندخل القبر مع ماضينا، كم من شخص وقف على قبر مفتوح، فوقع دون أن يدري فيه فدفن حيّا مع من يسكن القبر، انتبهوا حتى لا تُدفنوا أحياءً.
توابل - ثقافات
حتى لا تُدفنوا... أحياءً!
26-04-2012