كان فلاسفة "التقدم" الغربي "يبشرون" الإنسانية أن الغرب قد دخل مرحلة العقل والتعقل، وأنه لن يُقدم على أي خطوة غير متعقلة. كان هذا "التبشير" طوال القرن التاسع عشر الميلادي وقبل قيام الحربين العالميتين الأولى والثانية. فلما وقعتا وقُتل فيهما الملايين وخُربت المدن ومعالم الحضارة وبرز "توحش" الإنسان الغربي "الذي دخل مرحلة العقل والتعقل" حسب أولئك الفلاسفة، اختفى ذلك التنظير وثبت أنه مخالف للواقع!

Ad

ويبدو أن المجتمعات الغربية التي "تطورت" ومرت بأطوار "الرفاهية" في ظل ديمقراطيتها، تتجه نحو مزيد من الفردية والأنانية التي لا تعبأ بالآخرين وهمومهم.

منذ زمن كانت الملاحظة أن الأبناء لا يذهبون إلى زيارة والديهم، إلا إذا استلموا مقدماً ثمن البنزين.

وقد نصح علماء النفس والتربية، قبل ذلك، الآباء بأن يتركوا أبناءهم الصغار يفعلون ما يريدون. وقد تنبه أولئك العلماء أنفسهم إلى خطورة ما دعوا إليه عندما رأوا "الشباب" يطلقون النار عشوائياً على مرتادي "المولات"، ومن هم في الشارع ويقتلونهم!

لذلك تخلوا عن دعوتهم الضارة الخطيرة بترك "الحرية" للصغار، ونصحوا الكبار بتوجيههم وضبطهم! ولكن "التيار" أثبت أنه أقوى منهم ومن دعوتهم الجديدة وصحوتهم "المستعادة"... فالمجتمعات الإباحية: (Permissive Societies) لا تتقبل إلا الحرية المطلقة لأعضائها... يفعلون ما يشاؤون!

وقد لوحظ أن الحركات "الشبابية" الجديدة في الغرب- وفي الشرق أيضاً، فالعدوى تنتشر بسرعة البرق! كحركة احتلوا "وول ستريت" وغيرها من حركات "احتلوا..." والسلام... لوحظ أن تلك الحركات تعتبر إذا طُلب منها التوقف عن قرع الطبول- لأن الآخرين لا يستطيعون النوم!- افتئاتاً شنيعاً على "حريتها"!.. وتصر على قرع الطبول حتى لو لم ينم الآخرون... وليذهبوا إلى الجحيم!

لقد ظلت البشرية تؤمن "أن حريتي تنتهي حيث تبدأ حريات الآخرين"، إلا أن حركات "احتلوا الجديدة..." تغيّر لديها هذا المفهوم الذي استقر عليه البشر وصارت تعتقد أن "حريتها" أن تقرع الطبول متى شاءت... ولو منعت الآخرين من النوم!

وقد جاء في الأنباء، أن "الجماهير" في بلد أوروبي، حقق تقدماً ملحوظاً في الحياة وفي الديمقراطية، قد خرجت تطالب بمنحها حرية تناول الماريغوانا. لم تطالب تلك "الجماهير" بالمزيد من التنمية والديمقراطية، بل طالبت بحرية تناول الماريغوانا، وهي نبتة تدخل في عداد المخدرات التي تذهب بالعقل وتعطله وتُشعر من يتناولها بسعادة وهمية!

والأدهى من ذلك أن رئيس أكبر دولة في العالم قد أعلن تأييده لزواج المثليين، من أجل أصوات انتخابية، وأعتقد أنه قرار حزبي صادر عن الحزب الديمقراطي الأميركي المعروف بمواقفه هذه!

ولكني لا أعتقد أن الغالبية الساحقة من الأمة الأميركية، وكذلك السيدة الفاضلة ميشيل أوباما، ولا الرئيس نفسه، يقبلون برفع علم شبيه بالأعلام الفاضحة في "كاليفورنيا" فوق "البيت الأبيض" الذي تسكنه عائلة محترمة.

وللإيضاح أذكر أني كنت في "كاليفورنيا" قبل سنوات ولاحظت أن بعض المنازل ترفع أعلاماً ملونة، ليست العلم الوطني، ولا أي علم في العالم، وسألت عن تلك الأعلام فقيل لي إن هؤلاء- من هم في البيوت ويرفعون الأعلام فوق منازلهم- هم من الشواذ، وهم يتحدون الآخرين (المحافظين) بالإعلان عن شذوذهم. وخطر لي أن هؤلاء يعكسون الوصية الكريمة: "إذا بليتم فاستتروا" إلى: "إذا بليتم... فانفضحوا"!

والخلاصة: إن مجتمعات "الرفاهية" في الغرب تنتج أفراداً "أنانيين" لا يهتمون بالغير. إن "الشباب" الذين يرتكبون أشنع الجرائم في تلك المجتمعات هم أناس افتقدوا حنان الأم منذ الصغر، لأن الأم طلبت الطلاق وتركت أسرتها وأطفالها لتذهب مع عشيقها!

ولا يقتصر الأمر على النساء، فالأب يمكن أن يترك أبناءه ويذهب مع "العشيقة".

ونرى في المجتمعات الغربية أسراً بعائل واحد - الأم أو الأب- لأن الآخر ترك الأولاد والبنات، منطلقاً وراء أنانيته، رافضاً "التضحية" من أجل أولئك الصغار!

ولا يقتصر الأمر على المجتمعات الغربية، فهذه الظاهرة الخطيرة تزحف إلينا في مجتمعاتنا الشرقية وثمة آباء وأمهات في شرقنا يتركون الأسرة ويدعونها تتفكك، ويذهبون وراء شهواتهم للأسف.

إن ظاهرة "الأنانية" و"الفردية المفرطة" داء يزحف في العالم كله. وهو نتيجة لمجتمعات الرفاهية! عقد عدد من القضاة ورجال القانون مؤتمراً لإحياء تجرع الفيلسوف اليوناني "سقراط" للسم، دفاعاً عن حرية التعبير. فهل كان سقراط سيؤيد قرع الطبول فوق رؤوس النائمين... وترك الأطفال جميعهم وراء العشيقة والعشيق. ومما يؤسف له أن المجتمعات الشرقية الناهضة- كاليابان والصين- جعلت من المتعة الفردية للمواطن هدفها؟ ولا تجد في التجارب العالمية ما يقف في وجه "المتعة"!

إن ضبط الحزب الشيوعي الصيني لمجتمعه الكبير ولقواته المسلحة أمر إيجابي، لكنه مهدد بالنزعة "الديمقراطية" في عالمنا. وكذلك عودة روسيا- بقيادة بوتين- إلى الانضباط "السوفياتي" مسألة جديرة بالترحيب، ولكن في سياستهما الشرق- أوسطية ثمة حاجة إلى إعادة النظر!

إنني لا أنتقد تلك الظاهرة من موقع "الفضيلة الكاملة" ولا أتظاهر بها، ولكني لست من دعاة "الرذيلة الكاملة" وإعلانها... فأنا من مدرسة الآية القرآنية الكريمة: "لقد خلقنا الإنسان في كبد، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟" سورة البلد- الآيتان: 4- 5". صدق الله العظيم.

* أكاديمي ومفكر من البحرين