الحب عذاب

نشر في 25-10-2012
آخر تحديث 25-10-2012 | 00:01
 مسفر الدوسري الحب عذاب...

تلك الجملة الملغومة والملعونة تحوّلت إلى قناعة تصل حدّ الإيمان بها لدى معظمنا،

امتلأ تراثنا الأدبي، وحكاياتنا المتواترة جيلا بعد جيل بهذا الفهم عن الحب، فارتبط هذا الشعور الجميل والشفاف بالأسى والشقاء، حتى أصبح بمثابة لعنة يتجنبها ويخشاها الكثير من العقلاء، ومما زاد الطين بلة أن الشعراء وهم بالنسبة إلى غيرهم من الناس أكثر الناس ميلا للحب والصيد السهل والمفضّل له أبدعوا في تخويف الناس من الحب:

هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل/ فما اختاره مضنىً به وله عقل

وعِشْ خالياً فالحبُّ راحتُهُ عناً / وأوّلُهُ سُقْمٌ، وآخِرُهُ قَتْلُ

هذا ما قاله ابن الفارض، حتى نزار الشاعر الذي حمل راية الحب المضيء قال عن الحب إنه "جدول الأحزان في أعماقنا"، وكثير من الشعراء غيرهما تفنّن في التخويف من الحب، وكأنما هو غول سيلتهمنا بعد أن يصلي كل شبر منا بناره الوقادّة، لذا ارتبطت صورة الحب لدينا بكل ما يستنزف الروح والجسد، من ألم وعذاب وسهر، وذل، ونحول، وغيبوبة عن الوعي، وتيه فكر، وانشغال بال، حتى بدا المحب وكأنه درويش أحمق!

هذه الدروشة الحمقاء أضحى كثير من المحبين لا يرون أنهم يحبون فعلا إلاّ بها، ولا يعدّون أنفسهم عشاقا إلاّ إذا بانت أعراضها فيهم وتمكنت منهم، أصبحت تلك الدروشة هي الدليل أمام ذواتهم على قوة محبتهم وصدقها!

يعتقدون أن الحب لا يكون حبا إلا عندما يتحول إلى مرض نفسي، وعصاب مزمن، يعاني أحدهم أو إحداهن الأمرّين، ويقاسي البلاء، والذل، في هوى من يحب ويصبر، ويكابد العناء لأنه مؤمن أن الحب لا يكون حبا إلا بهذا...!

ترى المحب من هؤلاء مثلاً يعاني مع شخص لا يقدّر مشاعره، ويبدع في إذلاله واحتقاره لعواطفه بشتى الصور، ويملأ صدره بالجمر بدل العشب، ويهيل على قلبه الحجر بدل المطر، ويسقيه كأساً من ظمأ، وذلك المحب يتجرع ذلك الكأس ويطلب المزيد! لا يطلب عتقاً من هذه العبودية ولا يرتجيها بالرغم من الشكوى الدائمة منها المصحوبة بحرقة الدمع، وإعلانه جهراً برفضها، بينما هو يتلذذ به سرا لأنه متوهم أن هذا هو الحب الذي قالوا عنه وكتبوا من قبل، وأن شكواه منه ما هي إلاّ محاولة مفتعلة لاستعراض قوة حبه وصدقه!

الحب الذي يجعلنا مرضى نفسيين، ومأزومين، ومليئين بالعقد والكآبة، ومتضادين مع جمال الحياة ليس حبّاً، إنما الحب هو ذلك الشعور الذي يخلصنا من عقدنا، ويحررنا من قيودنا، ويصالحنا مع أنفسنا ومع الحياة.

والحبيب الذي يسلب منّا ثقتنا في أنفسنا، ويسلب منّا متعة العمر، ويغطي بالنحاس نجوم أرواحنا ليأكلها الظلام ليس حبيباً، بل الحبيب هو من يعلق قناديل من نور في مسافات العمر، ويزيح الغبار عن وجه النجوم في سماء أرواحنا لتشعّ أكثر.

الحب يصبح عذابا فقط حينما يكون قلب أحد الحبيبين مريضاً أو ربما كلاهما.

back to top