من تاريخ ومآزق الليبرالية المصرية
الدكتور رفعت السعيد، ليس ناشطاً سياسياً فقط، كزعيم لـ"حزب التجمع الوطني" المصري، ولكنه إضافة لذلك مفكر سياسي، استطاع أن يضيف للفكر السياسي المصري الشيء الكثير، ومنه كتابه "الليبرالية المصرية" الذي تحدث فيه عن تاريخ ونتاج كوكبة مهمة من الليبراليين المصريين أمثال: طه حسين، وسلامة موسى، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، وإسماعيل مظهر، وقاسم أمين. وعن مجموعة من المفكرين الليبراليين الشوام، الذين هاجروا إلى مصر، هرباً من القمع العثماني والفرنسي، في نهاية القرن التاسع عشر، كشبلي شميل، وفرح أنطون، ويعقوب صروف، وفارس نمر، اللذين أسسا مجلة "المقتطف" العلمية المشهورة، والأخوين تقلا، اللذين أسسا جريدة "الأهرام، وجورجي زيدان الذي أسس مجلة "الهلال"، ودار "الهلال للنشر والتوزيع". ولكن رفعت السعيد يعتذر عن كون كتابه هذا، لا يحيط بكافة المفكرين الليبراليين المصريين جميعاً، ويقول:
"هذا صعب، وربما مستحيل كجهد فردي، وسأورد ما اعتقدت أنها علامات فارقة في مسيرة الليبرالية المصرية".من مؤرخي الفكر السياسيورفعت السعيد لم يكتب فقط هذا الكتاب (الليبرالية المصرية)، فقد سبق أن كتب عدة كتب، في الفكر السياسي المصري منها: "تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر 1900-1925" عام 1980، وفي العام نفسه، نشر كتابه عن "الصحافة اليسارية في مصر 1950-1952". وفي عام 1997 نشر كتابه "حسن البنا متى، وكيف، ولماذا؟"، وبعد عام أصدر كتابه الآخر "ضد التأسلم"، ثم "تأملات... في الناصرية"، عام 2000. وفي العام نفسه نشر كتابه الآخر "مجرد ذكريات"، وفي عام 2002 أصدر "عمائم ليبرالية في ساحة العقل والحرية". وفي هذه الكتب، رصد رفعت السعيد جانباً من تاريخ مصر الفكري-السياسي، وأنار لنا جوانب مختلفة منه، وإن كانت أيديولوجيته اليسارية قد تحكَّمت بكثير من طروحات هذه الكتب، نتيجة لاتجاه رفعت السعيد اليساري الواضح، منذ سنوات طويلة، حتى الآن.التعريف بالليبرالية العربيةفي مقدمة كتابه هذا، يحاول رفعت السعيد الدفاع عن الليبرالية العربية، وهي ليبرالية متميزة عن الليبرالية الغربية، ولا شك أن الإسلام يلعب دوراً كبيراً في تشكيل هذه الليبرالية، ويجب أن يلعب دوراً كبيراً، كما يجب على الليبراليين ألا يتركوا الإسلام لرجال الدين المعاصرين، يفسرونه، ويقتطفوا منه ما طاب لهم، ولهواهم، وكان كفيلاً بخدمة مصالحهم الشخصية الخاصة. فعلى الليبراليين أن يقرؤوا الإسلام جيداً، لكي يستطيعوا مجادلة الأصوليين والسلفيين. أما أن تتم مجادلة هؤلاء بعبارات مقتطفة- كما جرت العادة- من ماركس، ولينين، وماوتسي تونغ، والفكر اليساري الغربي، فذلك هو الفشل الأفدح. ويستعين رفعت السعيد بقاموس أكسفورد، الذي يُعرِّف الليبرالية بأنها تفتُّح الذهن، حيث لا تعصب فيها، وهي تدافع عن الإصلاحات الديمقراطية. كما يستعين السعيد بالمعجم الفلسفي المختصر، الذي يقول عن الليبرالية، إنها تسعى إلى ترسيخ المبادئ الديمقراطية، وإشاعة الحياة الدستورية، وتؤكد الليبرالية أن الحرية أساس التقدم، وتعارض الليبرالية السلطة المطلقة، والليبرالية تُعتبر وجهة نظر، تختلف من مكان لآخر، ومن زمن لآخر، ومن شعب لآخر كذلك. لذا، فإن فهمها وتحديد معناها، يتعلق أساساً بالانتماء الفكري لكل فرد، ولكل شعب. ومن هنا، قلنا في الماضي إن الليبرالية العربية تختلف عن الليبرالية الغربية، ولا يجوز لبعض الكارهين لليبرالية من المتشددين، أن ينسبوا الليبرالية العربية لليبرالية الغربية، ذات الموصفات والأفكار، التي قد لا نحتاج إليها، والتي تنفِّر الكثيرين من الليبرالية، لاتهامها بسوء الأخلاق، والرذيلة، والانحطاط، وخلاف ذلك من العبارات، التي تدفع النشء خاصة إلى النفور من الليبرالية السياسية. وفي هذا يقول رفعت السعيد في كتابه: "الفارق الجوهري بين الليبرالية الغربية والليبرالية المصرية، أن الأولى قامت على أكتاف مجتمع أكمل تشكيلته الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية، عبر ظهور طبقتين اجتماعيتين جديديتين (البرجوازية، والعمال). وكانت دول الغرب الليبرالية لا تعاني– كمصر، أو معظم أنحاء العالم العربي– من الاحتلال الأجنبي".من مآزق الليبرالية المصريةإن أهم ما في كتاب رفعت السعيد عرضه للمآزق، التي واجهت الليبرالية المصرية في بداية القرن العشرين، والتي عرضها السعيد بصراحته المعهودة، وشجاعته الفكرية المعلنة، ولخَّصها في النقاط التالية:1- تركيز سعد زغلول الزعيم السياسي الليبرالي العريق، على تحرير الوطن وليس على تحرير الفكر والعقل في هذا الوطن. كما لم تكن الليبرالية تعني لديه الفكر الحر، والإبداع. لذا، كان موقفه من كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، وموقفه من كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" موقفاً رجعياً، غير ليبرالي.2- تملُّق بعض الليبراليين "الشوام" الذين هاجروا لمصر في القرن الثامن والتاسع عشر للاستعمار البريطاني، ولومهم المصريين، لمطالبتهم بالحرية والاستقلال.3- عمل الليبراليون في مصر والعالم العربي كذلك، وكأنهم في الشتات، من حيث إنهم كانوا متفرقين، ومختلفين فيما بينهم، لا تجمعهم رابطة من الروابط، ولا ينتظمهم حزب من الأحزاب. في حين كان الأصوليون ممثلين بجماعة الإخوان المسلمين والأزهر، متفقين، ومتآلفين، ومتضامنين في معظم المواقف. وبهذا أضاع الليبراليون على أنفسهم فرصة المكاسب السياسية الكثيرة، التي كانت أمامهم، إضافة لتعاليهم على الشارع المصري، مما أتاح للأصوليين ممثلين بجماعة الإخوان المسلمين اقتناص هذه الفرص، والوصول أخيراً إلى أعلى السلطات السياسية في مصر، فأصبحوا هم القادة في مجلسي الشعب والشورى وهم على كرسيي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء. وبذا استطاعوا القبض على السلطتين المهمتين في مصر: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية. في حين لم يفلح الليبراليون بعد 100 سنة (منذ مطلع القرن العشرين) من العمل، في القبض على السلطة المصرية، ومن الممكن أن بعضاً منهم كان في مجالس القضاء، وفي مجلس الشعب، وفي الحكومات المصرية المتعاقبة، ولكنهم كانوا فرادى، وليسوا جماعات، كما كان عليه الأصوليون الدينيون، إضافة إلى أن "الفترة 1922-1963 شهدت عملية حادة، لإجهاض مولد مؤسسات ليبرالية". كما يقول رفعت السعيد، في كتابه.4- إن معظم الرموز الليبرالية كسعد زغلول، ولطفي السيد، وبعض زعماء "حزب الأحرار الدستوريين" كانوا يمثلون البرجوازية الواسعة الثراء، ويفكرون بهذه العقلية، لذا، فقد انصرف عنهم الجمهور المصري الفقير، الكاره للأغنياء، والحاقد على البرجوازية، بينما كان الزعماء الأصوليون وبعض السلفيين من الفقراء، أو من الطبقة الأدنى من الطبقة الوسطى. لذا، فقد التفَّ حولهم الشارع المصري، وانتسب إليهم، ودفع بهم إلى السلطة العليا، التي نالوها في 2012.5- كان الليبراليون المصريون، يعتبرون ثقافتهم مرادفة للثقافة الغربية، ولأفكار الغرب. وظهر هذا واضحاً، في كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر". وكان الرأي العام المصري والعربي يكره الغرب، ويكره استعماره للمشرق العربي ومنه مصر. فخسر الليبراليون بذلك خسارة سياسية كبيرة، وانصرف عنهم الجمهور العريض، وأصبحت الليبرالية بذلك، أفكاراً غربية استعمارية، وأفكار زعماء النخبة المعزولة فقط، الذين كانوا يمثلون أنفسهم فقط، ويمثلون "حزب الأحرار الدستوريين"، وبعض المثقفين اليساريين.(للموضوع صلة).* كاتب أردني