مستقبل الثقافة والفن وثورات الربيع العربي
مستقبل الفن والثقافة في ظل ثورات الربيع العربي مظلم ومقلق، هذا ما يراه جمهرة من الكاتب والمثقفين والفنانين في ضوء قراءتهم للأحداث الجارية في الساحة، والتي تتجه إلى المزيد من التضييق على حرية الإبداع والمزيد من التقييد للفضاء الحر الليبرالي المتبقي من العهود الملكية في مصر وسورية والعراق منذ ثلاثينيات القرن الماضي برعاية المحتل الأجنبي، وأعقبه حكم العسكر الذي بطش بالمفكرين والمبدعين ومارس تشويهاً للنفسيات والمجتمعات وتزويراً للتاريخ.اليوم تجد البلاد العربية نفسها في مواجهة مع قوى تحمل أيدلوجيات تريد إرجاعها إلى الوراء إلى ما قبل العصر الليبرالي، ذلك العصر الذي احتضن ازدهاراً ثقافياً وفكرياً وفجّر طاقات إبداعية مازلنا عالة عليها، في هذا السياق يبدي شيخ الروائيين الإماراتيين الروائي علي أبو الريش تشاؤمه أمام ما يحصل على الساحة الفنية والثقافية من تقييد وتضييق ويصرح بأن الثورات الجديدة ستعيدنا إلى الوراء بأكثر مما فعلت الأنظمة السابقة، لأن تلك الأنظمة استطاعت أن تخلق داخل كل شخص ديكتاتوراً صغيراً وديكتاتوراً جباناً، والآن بعد زوال تلك الأنظمة... كم ديكتاتوراً سيكون لنا؟!
وبجردة سريعة لإنجازات عام من الثورات العربية، ما هو الحصاد؟ يرى الكاتب السعودي عبدالله بن بجاد العتيبي: ما اتضح اليوم هو أن لدينا من عناصر التخلف ومعطياته ومفاهيمه أكثر مما لدينا من عناصر التنوير والتحضر، وأن الطائفية والقبلية والأيدلوجيات الدينية أقوى من مفاهيم الحرية والمدنية والتسامح والعدالة، وتساءل عالم الاجتماع البحريني د. باقر النجار: ما الذي انتهت إليه الثورات العربية في عامها الثاني؟ وأجاب: قد لا أكون مجانباً الصواب إذا ما قلت إن الثورات العربية خلقت حالة من حالات الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي فوضى لم تسلم منها جل الخارطة العربية، أما المفكر البحريني المعروف د. محمد جابر الأنصاري فقد تساءل بقلق: هل تأتي الثورات بالدولة الدينية؟ وختم مقالته بقوله: المحصلة أن الشباب الذين تظاهروا في الشوارع والميادين كي تحصد الأحزاب الدينية أغلبية المقاعد البرلمانية لا يبقى أمامها إلا المؤسسة العسكرية برؤيتها التحديثية، فالتجاذب اليوم بين هاتين القوتين هو الذي يقرر المصير.وفي الكويت كتب أستاذ العلوم السياسية د. شملان العيسى عن الثورات العربية بين التشاؤم والتفاؤل ليقول: إنه بعد عام على هذه الثورات لا يزال مسلسل الإحباط والخيبة والتعثر مستمراً، المستقبل الديمقراطي محفوف بالمخاوف: هل سيكون إسلامياً طائفياً أم قبلياً؟ المتفائلون يرون أن ما يحصل طبيعي وعادي وأن كل الثورات مرت بمرحلة المخاض والفوضى والقتل قبل أن تستقر، لكن الكاتب يرى أن هذا يتطلب صعود قوى اجتماعية واقتصادية وسياسية لديها نهج جديد وواضح لكيفية إدارة الحكم والدولة. أما المفكر السوري جورج طرابيشي فقد رأى أن المؤشرات القائمة حالياً لا تجعله كثير التفاؤل بمصائر هذا الربيع العربي وأضاف: نبكي فرحاً لسقوط الأنظمة، وقد نبكي حزناً للأنظمة التي ستحل محلها، ويكتب د. إبراهيم عرفات في "الوطن" القطرية متشبثاً ببقايا أمل في ربيع مزدهر ويقول: مع الربيع العربي تجدد الأمل فحلت دموع الفرحة محل دموع الحسرة، ومع أن الأمل ما يزال قائماً إلا أن صعوبات هائلة بدأت تتبين تدعو إلى القلق من أن يسكب المواطن العربي دموعاً جديدة ستكون أحر وأمر! وأخيراً فإن الكاتب عادل الطريفي يبدي دهشته في مقالته "المتراجعون في الخريف العربي" من الكُتاب الذين انبهروا بالثورات الشعبية واندفعوا في دعمها والمشاركة في مظاهراتها، واليوم بدؤوا في التراجع عن مواقفهم مشككين في مستقبل تلك الثورات، لكنهم لم يعترفوا إلا قليلاً منهم بقصور رؤيتهم!نحن اليوم أمام ربيع طال ولم يزدهر ولم يثمر ويبدو أننا مقبلون على خريف بائس وكئيب تتساقط فيه أوراق كثيرة سنبكي عليها فيما بعد، "ميدان التحرير" الذي احتضن الثورة وحمى الثوار "أيقونة الثورة" تركه الثوار ليصبح في قبضة "البلطجية" طبقاً لمحمد عبدالمنعم، وتحول إلى سوق عشوائية مكتظة بعربات الفول والحمّص والكبدة، وفي الليل يصبح مكاناً خطراً يتعرض فيه المارة لعمليات سطو قد تكلف الزائر حياته. وضاق الفضاء الحر في عهد الإسلاميين المستحوذين اليوم على المجالس البرلمانية وعلى الفضاء العام، زاد تدخل الجماعات الأيدلوجية والأفراد المحتسبين في الحريات الخاصة، زادت القيود على حرية الإبداع وبدأت تضيق كل يوم على رقاب المبدعين، زاد عدد المحتسبين الذين يرفعون دعاوى على الكتاب والفنانين لمحاكمتهم ومصادرة أعمالهم، وأصبح هاجس الخوف مسيطراً على النفوس، وعادت الرقابة أشد وطاة وأصبح الطابع العام للتشريعات العربية أكثر تشدداً، ففي الكويت نجح الإسلاميون الذين يملكون أغلبية برلمانية في إقرار قانون يغلظ العقوبة بالإعدام على كل من يمس الذات الإلهية أو الأنبياء أو الرسول عليه الصلاة والسلام أو زوجاته أمهات المؤمنين أو الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كيف يتصور في مجتمع مسلم وجود من يسيء إلى الله تعالى والرسل والأنبياء؟!ولكن هكذا تريد الأغلبية الإسلامية المهيمنة الانتقام والتشفي وتصفية الحسابات مع الخصم السياسي المذهبي الآخر، وكان الأجدر بالبرلمان الكويتي أن يرتفع فوق هذا الخلاف المذهبي وينشغل بقضايا المجتمع الكويتي الحقيقية، وفي مصر الثورة أيدت المحكمة سجن الفنان عادل إمام بتهمة ازدراء الأديان في عدد من أفلامه مثل طيور الظلام، والإرهاب والكباب، والإرهابي، وحسن ومرقص، ومسرحية الزعيم حيث تناول فيها شخصية إسلاميين متطرفين يتخذون من اللحى والجلباب والزبايب (جمع زبيبة) مظاهر لخداع الناس وتضليلهم، وكما أثار القانون الكويتي جدلاً فإن هذا الحكم أثار قلقاً على مستقبل الفن المصري، وإذ لا جدال في عدالة القضاء المصري إلا أن من حق محبي عادل إمام أن يتساءلوا وقد شاهدوا وشاهد الآلاف من الجماهير العربية أفلامه ومسرحياته واستمتعوا بها فلم يجدوا أي إساءة للأديان! ولم يشاهدوا أي ازدراء أو انتقاص لا للدين ولا لعلمائه الأجلاء، نعم هناك سخرية وهناك انتقاص، ولكن لفئة متطرفة اتخذت من الدين مطية لأهوائها وأغراضها السياسية والأيدلوجية، أعمال عادل إمام انصبّت على السخرية من المتطرفين الذين دفعوا وحرضوا الشباب على الإساءة لمجتمعاتهم، ثم لماذا يتحمل عادل إمام مسؤولية تلك الأفلام والمسرحيات وهو مجرد مؤدٍّ لدور رسمه الكاتب صاحب النص، إن ناقل الكفر ليس بكافر، وإذا كانت ثمة مسؤولية فعلى الآخرين لا على الممثل.لقد أفرزت احتجاجات الربيع العربي وصعدت قوى أيدلوجية انتقامية هدفها الأساسي تصفية حسابات الماضي، واليوم تتصاعد الدعوات في مصر إلى إلغاء الهيئة العامة للثقافة باعتبارها من مخلفات النظام السابق، هذه الهيئة التي أنشئت 1945 وقامت بتنشيط الحركة الأدبية وتيسير الكتب بأسعار زهيدة للجماهير واحتضنت أدباء الأقاليم، هي اليوم معرضة ككل البنى الثقافية القديمة للنسف!*كاتب قطري