لا تستطيع أن تتبين ظاهرة السينما السعودية إلا في وسط خارجها، ورغم كثرة المشاركات السينمائية السعودية في الخارج فإن مشاركة الفيلم السينمائي من السعودية "وجدة" للمخرجة السعودية هيفاء المنصور كان أهم حدث سينمائي ذي علاقة بالسعودية، فهو يأتي ضمن مشاركة مهرجان السينما الدولي بدبي في دورته التاسعة، التي انقضت قبل أيام، وثانياً لأنه فاز بجائزة أحسن فيلم عربي في مسابقة المهر العربي، وفازت الطفلة بجائزة أفضل دور عربي، وثالثاً يعود لطبيعته، فالمخرجة التي كتبت الفيلم اختارت موضوعاً رمزياً يشرح معاناة المرأة في السعودية، ويتمثل في حلم فتاة صغيرة بأن تركب دراجة فتعاندها الظروف كلها وتحول بينها وبين الحلم، لكن في النهاية تنهض الأم الرابضة تحت كل ظروف وعثرات التمييز، لتهدي إلى طفلتها الدراجة التي عجزت عن أن تشتري ثمنها لأنها غالية أولاً، وثانياً لأنها تهدد من يقودها بأن تمنع الإنجاب، كما وصفت أم الطفلة، أو تصيبها بالعقم. وقد قامت المخرجة بتصوير الفيلم في الرياض كاملاً ما منح الفيلم صبغة محلية واقعية، والسبب الرابع هو أن هذا الفيلم الفائز بجائزة السينما الدولية للأفلام العربية جاء من بيئة لا تعترف بالسينما وتطاردها وتحرمها وتجعل بينها وبين السينما شق النفوس، كانت تجربة مهرجان السينما الخليجي للأفلام الطويلة والوثائقية والقصيرة فرصة لأن أطلع على تجارب شباب السينما السعودية، شباب يحلم بالسينما ويكتب السيناريوهات ويصور ويطبع ويتقدم للمسابقات، وكان العرب وغير العرب يطرحون عليهم سؤالاً فجاً لكنه مشروع: ماذا ستفعل بفيلمك بعد أن تنتهي من عرضه في المهرجان، وأنت لا تملك دور عرض في بلادك، هل ستبقيه في الخزانة؟ ولا شك في أن هذا السؤال قد طرح على هيفاء المنصور التي دخلت بفيلمها مهرجان فينيسيا ثم دبي، وحصدت به جائزة كبيرة. لكن هل يملك أحد أن يسلب من الناس أحلامهم وشغفهم وهواهم، ما الذي يجعل هؤلاء الشباب يبذلون كل هذا الجهد والوقت والبحث عن تمويل من هنا وهناك، ودخول المسابقات وحضور المهرجانات، وهم يعرفون أي بيئة فقيرة إن لم تكن عنيدة ترفض بذور مواهبهم وفسيل أفكارهم وإبداعهم؟ يحركهم الحلم ويعبئ حماسهم الشغف، ويختارون العيش في الهامش كي يعبروا عن قضايا مركزية.

Ad

فيلم "وجدة"، وهو الفيلم الأول الطويل لهيفاء المنصور، اختار أن يحكي حكاية حلم طفلة قد يكون هو حلم المخرجة نفسها، امتلكت حلماً مشروعاً يستطيع أن يفعله الفتيان لمجرد أنهم فتيان، لكنها وجدت أنها لا تستطيع فعله لمجرد أنها خلقت أنثى، لكن هذا التمييز لا ينطبق فقط على حلم امتلاك دراجة، بل ينسحب على كل الأحلام، منذ ولادة هذه الأنثى التي لا تكفي والدها، فهو يريد ولداً ذكراً، وسيذهب رغم حبه لزوجته ليطيع والدته التي ستزوجه من أجل أن ينجب لها ذكراً، وهذا هو نفسه معاناة امرأة لا تملك أن تقود سيارة بنفسها فتخضع لسلطة سائق هندي يقيم في البلاد إقامة غير قانونية، وهي ذات المرأة التي لا تختار أين تعمل إلا بحسب مقاييس المجتمع الضيقة، فهو يحدد لها ماذا تعمل وأين تعمل.

تشترك وجدة الطفلة في المسابقة الوحيدة التي تقام في المدرسة لتحفيظ القرآن، كي تفوز بمبلغ نقدي يوفر لها سعر دراجة، لكن معلمتها تقرر بدلاً منها أن تذهب الجائزة لإنقاذ فلسطين، الأم التي شعرت بفقر حياتها من المعنى منحت أخيراً ابنتها حلمها فاشترت لها الدراجة التي تدربت عليها فوق السطح، وقادتها بجدارة حتى الشارع، وسبقت ابن الجيران. المخرجة هيفاء كانت بارعة في الصورة، وفي تقطيع الحدث، وفي تصوير المشاهد، ما دفع لجنة تقييم الأفلام العربية إلى منحها جائزة، وجعل جمهور مهرجان فينيسيا يصفق لها عشر دقائق، لأنهم يعرفون أن هذا الفيلم بمثابة وردة انبثقت من شقوق الأسمنت فصنعت من صورتها صورة للإنسان يتحدى الأسمنت فينتصر، ويعبر عن نفسه بمنظر بهيج.