فجر يوم جديد: «عشم» ماجي مرجان
قبل يوم واحد من سفرها إلى العاصمة القطرية للمشاركة بفيلمها الروائي الطويل الأول «عشم» في مهرجان «الدوحة ـ تريبيكا»، دعتني المخرجة الشابة ماجي مرجان لمشاهدة الفيلم الذي كتبته وتحمس لإنتاجه الكاتب والمنتج محمد حفظي وينتمي إلى السينما المستقلة، وقدمت من خلاله قصيدة سينمائية تذخر بالمشاعر الإنسانية الفياضة وروح التسامح والتصالح التي تتمنى لو سادت المجتمع المصري، فضلاً عن الرقة والعذوبة والعلاقات التي لا تخلو من شجن.أول ملمح في التجربة الجديدة أن المخرجة الشابة بدت متعاطفة مع الشخصيات، التي كانت أقرب إلى «الحالات» منها إلى الخيالات والأطياف التي تتحرك على الشاشة، وحالفها التوفيق في اختيار وجوه جديدة، لا تعرف الاحتراف، الذي يقود إلى الافتعال، ومن ثم اختفت «الصنعة»، واتسم أداء الممثلين وحوارهم بالواقعية والتدفق والتلقائية والتكثيف، رغم الارتجال الذي كان محسوباً بدقة وملتزماً بدرجة كبيرة.
أرادت ماجي أن ترصد الانفصال الجاثم على أنفاس سكان القاهرة، كانعكاس لما أصاب المصريين جميعاً، نتيجة التصنيفات العرقية والتقسيمات الطائفية والسياسية والدينية، والحواجز النفسانية التي تحول بينهم، ومحاولاتهم اليائسة لمقاومة التصنيفات وإسقاط الحواجز، من خلال قصص إنسانية كثيراً ما التقينا أصحابها، ربما من دون أن نتوقف عندهم أو نلتفت إلى معاناتهم.تفعل ماجي مرجان هذا برقة وعذوبة وسلاسة، من دون غلظة أو خشونة، عندما تستعرض حالاتها بدراما عرضية ووجوه نضرة، كان لها الفضل في تحويل الشخصيات الدرامية إلى «لحم ودم»، فلا تملك سوى أن تتفاعل معها، وتتعاطف مع مآسيها، سواء «عاملة النظافة» التي تحاول أن تشق طريقها في القاهرة المزدحمة أو «عامل الأمن»، الذي يحلم بامتلاك دراجة بخارية يوظفها في الأغراض التجارية، و»الممرضة» التي تبحث عن هويتها، وتملك إرادة وإصراراً على تغيير وضعيتها، والطبيب الذي يرى في السفر حلاً لمشاكله، والمحاسب الضرائبي الذي يخشى المرض الخطير بينما تكتشف زوجته أنها لا تستطيع الاستغناء عنه، وتتعهد بعلاج زوجة سائق التاكسي المريضة بهشاشة العظام، لو أن تحاليل زوجها جاءت سلبية. لكن المخرجة - المؤلفة، تبدو متعاطفة مع بطلها الذي تُطلق عليه اسم «عشم»، وتلخص من خلال اسمه، الذي اختارته عنواناً للفيلم، مغزى ورسالة تجربتها؛ فكل واحد من أبطالها لديه «عشم» أو «أمل» في تغيير حاله، وتحقيق أمنيته التي يرجوها، ابتداء من الفتى «عشم» الذي اضطر إلى العمل «بلياتشو» يروج للمحال والأنشطة التجارية الجديدة، ليلة الافتتاح، و»فريدة» التي لا ترى في فتاها، ابن أمه، مواصفات الزوج الحقيقي، بينما تؤمن «داليا» بأنها لن تفرط في حلمها، وترفض السفر مع زوجها المحتمل إلى خارج البلاد، ويواجه «رمزي» و»نادين» مشكلة في الإنجاب تنغص عليهما حياتهما.في هذا المشهد «البانورامي» الذي يفيض بالأحاسيس تلتقط المخرجة ـ المؤلفة شخصية «المجذوب»، الذي يمثل ملمحاً رئيساً لمدينة تقسو على أهلها، لكنها (أي المخرجة) توجه نقدها الاجتماعي بشكل مهذب، لا يعرف التجريح والوقاحة أوالتطاول، بل تقدم صورة مُشبعة بالبهجة وتُشيع روحاً من التفاؤل والحب، وفيما ترصد تنامي المد الديني (الصلاة الجماعية في الخلاء وعلى الأرصفة!) تدعو للتشبث بالهوية وتتأسى على ضياعها (اختفاء تمثال رمسيس) وتقدم أروع صورة للتكافل الاجتماعي والتصالح والتسامح بين الطبقات، مثلما تندد بأولئك الذين يزدرون العشوائيات، وينظرون إلى أهلها بوصفهم «مجرمين» يأكلهم الفقر، ويدفعهم العوز والحرمان إلى الحقد على الأغنياء.الرؤية الطازجة للمخرجة الشابة كانت سبباً في قيامها بتوجيه التحية إلى المخضرم نجيب الريحاني (الذي يخفف الأوجاع) والمُبدع صلاح جاهين («الرباعيات» تحتل ركناً مهماً في المشهد) ولا تنسى «العندليب» (يا عندليب ما تخافش من غنوتك... قول شكوتك واحكي على بلوتك... الغنوة مش ح تموتك إنما كتم الغنا هو اللي ح يموتك... عجبي!).إنها الحياة كما تعرفها وتعشقها وتنشدها الموهوبة والزهرة اليانعة ماجي مرجان، التي تقدم فيلماً يأخذك برومانسيته، ويستحوذ على مشاعرك، بأغانيه الموظفة بوعي (سعاد حسني وعايدة الأيوبي وعبد الحليم حافظ)، وزوايا تصويره المبتكرة (لاحظ كيف صورت مترو مصر الجديدة) وغموضه المحبب، وهو يقدم شخوصه، ويتوحد معهم، وحواره الواقعي، ودعوته للحب والتضحية والتصالح، ونهايته المتفائلة (ليلى مراد ونجيب الريحاني يغنيان: رايحين ع البلد اللي تجَمع شمل العشاق... نفرح ونغني ونوَدع عهد الأشواق)... فهو فيلم يخطف القلوب ويستحوذ على العقول.