بذلت الإمارات جهوداً مضنية لكي تستنفر ردود فعل قوية وحادة ضد تصرف نجاد، وقامت دول عربية وأجنبية عديدة بتوبيخ طهران وإدانة الزيارة، وهو الأمر الذي اعتبره الإيرانيون في البرلمان والشارع والحكم «مساساً بالسيادة الوطنية وتدخلاً في الشؤون الداخلية».

Ad

على عكس ما يتصور كثيرون، فإن العلاقات التي تربط الإمارات بإيران في المجالات غير السياسية تعد إيجابية بامتياز، وربما تكون تلك العلاقات أفضل على الصعد الاقتصادية والتجارية من تلك التي تربط إيران بكل الدول الخليجية والعربية الأخرى.

يشكل الإيرانيون نحو 10% من سكان الإمارات، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 11 مليار دولار سنوياً، ويقدر مسؤولون إيرانيون عدد الشركات الإيرانية العاملة في دبي فقط بنحو 10 آلاف شركة، إضافة إلى بضعة آلاف شركة أخرى تعمل في بقية إمارات الدولة الست، كما يقدر بعض هؤلاء المسؤولين الحجم التراكمي للموجودات الإيرانية في الإمارات بنحو 300 مليار دولار.

إنها علاقات تجارية واقتصادية عميقة بالطبع، ولولا مشكلة الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى)، لباتت العلاقات السياسية أيضاً في حال جيدة، لأن قدراً كبيراً من التجانس يظهر بين المجتمعين، وبعض أبناء الإمارات يعودون إلى أصول إيرانية، كما أن دولة الإمارات تنتهج في الأغلب سياسة خارجية توافقية ودية، وهي استراتيجية سنّها الراحل الكبير الشيخ زايد، ويبدو أنها ما زالت جزءاً من مقومات الدولة.

في هذا الشهر نفسه قبل عامين، شهدت العلاقات الإماراتية- الإيرانية آخر أزماتها بسبب مشكلة الجزر، إذ زار الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية الإمارات رام الله، حيث التقى الرئيس أبومازن، فوجدها مناسبة للتذكير بأن معاناة بلاده من جراء احتلال جزرها تماثل معاناة فلسطين من آثار الاحتلال الإسرائيلي، وقد ساوى بين الاحتلالين، كما دأب، وغيره من المسؤولين الإماراتيين، على الفعل، في أوقات سابقة.

قوبلت تصريحات عبدالله بن زايد آنذاك برد فعل قاس ومتوتر وحاد من الجانب الإيراني، ووصفت بأنها "وقحة"، و"غير مسؤولة" و"غير متزنة". وعلّق نواب برلمانيون إيرانيون على تلك التصريحات بقولهم: "يجب أن نلقن المسؤولين الإماراتيين درساً"، واستدعت الخارجية الإيرانية القائم بالأعمال الإماراتي، وهدد المتحدث باسمها بأن "تكرار مثل تلك التصريحات يثير مشاعر الشعب الإيراني وقد يكون له رد فعل عنيف".

وقد سعى البلدان بعد تلك المشكلة إلى محاولة تهدئة الأجواء، ويبدو أنهما اتفقا على عدم تصعيد الخلاف في شأن الجزر لتسهيل محاولة إيجاد وسيلة للتفاوض حول حل عادل لتلك الأزمة، بما ينطوي عليه ذلك من عدم سعي أبو ظبي لتأجيج الإشكال، أو إثارته في التجمعات الإقليمية والدولية.

ورغم أن العامين الماضيين كانا حافلين بالكثير من الأزمات في إطار العلاقات بين دول الخليج العربية وإيران، فإن مشكلة الجزر لم تكن سبباً في واحدة منها، ولم تدفع العلاقات الإيرانية- الإماراتية إلى المزيد من التوتر.

لقد واصلت السعودية اتهام إيران بلعب أدوار في تأجيج الأوضاع في المنطقة الشرقية التي تشهد اضطرابات ذات طابع طائفي شيعي، وحدث ذلك آخر مرة في شهر فبراير الماضي.

واتهمت البحرين إيران بوضوح بوقوفها خلف الأحداث التي تجري في هذا البلد منذ ربيع العام الماضي، وهو الأمر الذي استدعى إرسال قوات "درع الجزيرة" لحفظ الأمن هناك.

أما الكويت، فقد أعلنت في أبريل الماضي اكتشاف شبكة تجسس لحساب الحرس الثوري الإيراني، واستدعت سفيرها في طهران، وأعلنت طرد عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين المتهمين بـ"التآمر ضد مصلحة البلاد".

ويجب ألا ننسى بالطبع الأزمة التي تفجرت في أكتوبر الماضي، حين أعلنت وزارة العدل الأميركية محاولة إيرانية فاشلة لاغتيال السفير السعودي لدى واشنطن عادل الجبير، وهي الأزمة التي عمقت سوء الفهم والتربص والانتقادات بين البلدين الإقليميين الكبيرين السعودية وإيران.

حدثت كل تلك المشاكل بين الجانب الإيراني ودول الخليج العربية، لكن العلاقات مع الإمارات ظلت طيلة العامين الفائتين، في أعقاب تصريحات عبدالله بن زايد في رام الله، دون حدود الأزمة، بل إن تصادم مصالح الطرفين في الملف البحريني، واتخاذهما مواقف متناقضة في الموضوع السوري، لم يفجر خلافاً علنياً بينهما.

فما الذي يدعو الرئيس نجاد إلى القيام بتلك الزيارة المجانية لجزيرة "أبو موسى" المتنازع عليها مع الإمارات، والخطابة فيها، والتأكيد على سيادة بلاده عليها؟

ما الذي يدفع نجاد لكي يتخذ تلك الخطوة الاستراتيجية بالغة الدلالة، فيكون أرفع مسؤول إيراني يزور تلك الجزيرة منذ استيلاء إيران عليها في عام 1971، وأول رئيس إيراني يضع قدمه عليها، رغم ما مر بالعلاقات بين البلدين من صراعات وأزمات حادة طيلة أربعة عقود؟

يبدو أن نجاد أراد أن يفجر خلافاً مع الإمارات، وأنه اختار الطريقة التي يدرك تماماً أنها أقصر طريق لإشعال أزمة مع هذا البلد، فما الذي يهدف إليه من إشعال تلك الأزمة؟

ثمة احتمالان لا ثالث لهما؛ أولهما أن نجاد يريد أن يعاقب الإمارات على مواقفها المناوئة للسياسات الإيرانية في الملفين البحريني والسوري، أو أن يضغط عليها ليحد من نزعتها النشطة في هذين الملفين.

أما الاحتمال الثاني فيتعلق برغبة نجاد في صرف الأنظار عن مشكلة داخلية كبيرة تعانيها بلاده، وهي المشكلة التي تتجسد في الصراع التقليدي الدائر بين المحافظين والإصلاحيين من جهة، والصراع المستجد داخل معسكر المحافظين أنفسهم من جهة أخرى. يريد نجاد أن يواجه أجواء الغموض السياسي التي يعانيها نظامه، وأن يقلل من التوتر الناجم عن توقع نشوب حرب ضد بلاده بسبب برنامجها النووي، في ظل تراجع اقتصادي ملحوظ، وانخفاض لقيمة العملة، وتحت وطأة العقوبات الدولية.

يبدو أن الاحتمال الثاني هو الأرجح بالفعل، وأن نجاد يحاول أن يخلق شعوراً قومياً يجعل الجمهور الإيراني يلتف حوله، بشكل يوقف تراجع شعبيته. وبالطبع فليس هناك أفضل من مجابهة خطر خارجي يتمثل بتهديد سيادة الدولة على إقليم تعتبره "جزءاً لا يتجزأ من ترابها الوطني"، لخلق مثل هذا الشعور، وصرف أنظار الإيرانيين عن المشكلات الأخرى.

على أي حال، فقد بذلت الإمارات جهوداً مضنية لكي تستنفر ردود فعل قوية وحادة ضد تصرف نجاد، وقامت دول عربية وأجنبية عديدة بتوبيخ طهران وإدانة الزيارة، وهو الأمر الذي اعتبره الإيرانيون في البرلمان والشارع والحكم "مساساً بالسيادة الوطنية وتدخلاً في الشؤون الداخلية".

يبدو أن نجاد نجح في تحقيق هدفه من تلك الزيارة.

* كاتب مصري