«داحس والغبراء»!
غير مقبولة إطلاقاً هذه "المهاترات" التي تشهدها معظم الدول العربية، التي هبت عليها إمَّا نسمات الربيع العربي أو رياح خماسينية محرقة، بل هي مرفوضة، والمطلوب في هذه الفترة الخطيرة فعلاً حيث شرر الحرائق يقدح في كل مكان أن تكون هناك بين أصحاب الآراء المتعارضة كلمة سواء، وأن يكون هناك عمل بالآية الكريمة: "وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ".أمَّا أن يستمر التمترس في الخنادق المتبادلة، وأن ترتفع وتيرة القصف العشوائي غير المنطقي وكأننا في أيام "داحس والغبراء" فإن هذا يجب أن يكون مرفوضاً شعبياً وسياسياً وأخلاقياً، فـ"الحرب أولها كلام"، خصوصاً إذا كان هدف هذا الكلام ليس الإقناع وتقريب وجهات النظر والنقد البنَّاء وإنما الشتم مجرد الشتم، والإساءة المقصودة وتضخيم العيوب، ولقد نُقِل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "وكلك عورات وللناس أعيُن".
وعلى سبيل المثال فقد كان في المملكة الأردنية الهاشمية يوم الجمعة الماضي تظاهرة، كان ينبغي ألا تكون استعراضاً للقوة إضافة إلى ما رافقها من بعض قيادتها من التهديد بالتصعيد، لأن رأي الإخوان المسلمين في الإصلاح الذي يجري الحديث عنه بات معروفاً، والرأي المعارض المقابل معروفٌ أيضاً، ممَّا يقتضي أن تكون هذه التظاهرة، سواءً كان عددها عشرة أشخاص أو مئة ألف شخص، دعوة إلى الوحدة الوطنية وتقريب وجهات النظر والتمسك بأن الوطن فوق الجميع... وهذا للموالين والمعارضين والمؤلفة قلوبهم الذين استمرأوا الوقوف في المساحات الرمادية.لا شك أن في الجماعات الإسلامية، وفي الإخوان المسلمين الذين هم في الواجهة هذه الأيام، جهات وتوجهات وسطية ومعتدلة وواقعية، كما أن فيها قيادات على مستوى عالٍ من المسؤولية، ولهذا، مع التأكيد على ضرورة الحوار الهادف والبنَّاء وضرورة الاستمرار في النقد البنَّاء البعيد عن الرَّدح والشتائم والتنابز بالألقاب، فإنه لا يجوز إطلاقاً وضع الجميع في سلة واحدة، ويجب إيقاف هذا القصف العشوائي المتبادل الذي يورِّم القلوب ويسمم الأجواء ويدمر فضيلة "الرأي والرأي الآخر".ربما لأن بعضنا لا يعرف أن حكمة قصة أهل الكهف الواردة في القرآن الكريم هي التأكيد على أن حركة التاريخ لا تقف عند لحظة واحدة، وأن كل مرحلة من هذا التاريخ لها عملتها ولها معطياتها، وأنه على بني البشر أفراداً وأحزاباً وجماعات ومجموعات أن يتطوروا بتطور الزمن وبتطور المجتمعات، فالزمن في هذا العصر سريع التطور، ولذلك فإن ما كان يصلح في نهايات عشرينيات القرن الماضي وبدايات أربعينياته لم يعد يصلح لبدايات القرن الحادي والعشرين والألفية الثالثة، خصوصاً أننا لا نتحدث عن الدين الإسلامي ولا عن باقي الأديان السماوية، بل نتحدث عن الاقتصاد والسياسة والقيم الاجتماعية المستجدة وعن ثورة وسائل الاتصالات وعن الأساليب الجديدة لحل المشاكل والصراعات الكونية، وهذا يعني أن علينا أن نركز، عندما نجادل ونحاور الإخوان المسلمين وعندما يجادلوننا، على هذه المسائل بعيداً عن الرَّدح الرخيص والشتائم النابية.