الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (8)

Ad

ترك الخليفة عبدالرحمن الناصر خلفه مملكة موطدة الأركان مرهوبة الجانب، فنعمت البلاد بعقود من السلام والأمن، وغدت الأندلس من القوى الإسلامية العظمى في عصره، وأصبحت قرطبة عاصمة الغرب الإسلامي كله وسيدة إسبانيا بلا جدال، وانتشر نفوذ الأمويين في المغرب الأقصى ونشروا سيادتهم على الممالك النصرانية في الشمال، لذلك عندما تولى الأمير الحكم المستنصر أمور الحكم بعد وفاة والده الناصر كانت الأمور استتبت له، وألقت البلاد بمفاتيحها إليه، ناهيك عن أنه شارك أباه أمور الحكم فكان رجلا مجربا، تمت على يديه أعظم حركة فكرية في تاريخ الأندلس.

نظم الخليفة الناصر عملية خلافته بشكل دقيق، وعهد بالخلافة من بعده لأكبر أولاده الحكم، وأشركه معه في الحكم وإدارة البلاد وعهد إليه بأكبر مشروعاته المعمارية، بناء مدينة الزهراء، مقر الخلافة آنذاك، لذلك عندما تُوفي الخليفة الناصر في 2 رمضان سنة 350هـ، بويع الأمير الحكم بالخلافة في اليوم التالي مباشرة، وتلقب بـ"المستنصر بالله" ولم يخالفه أحد من الأسرة الحاكمة فالجميع سلم بحقه في خلافة والده، خصوصا أن الحكم المستنصر لم يكن شابا طائشا عندما تولى أمور البلاد، بل رجلا غزا الشيب مفرقه يبلغ من العمر الثامنة والأربعين، حنكته التجارب وخاض غمار الحروب بجوار والده.

كان أول قرار للخليفة الحكم المستنصر، في اليوم التالي لولايته البدء فورا في زيادة مساحة مسجد قرطبة الكبير، وكان أمراء بني أمية منذ ولاية عبدالرحمن الداخل حتى عهد الناصر عبدالرحمن قد تولوا أمر هذا الجامع بالعناية سواء بالزيادة في مساحته أو ترميمه، إلا أن زيادة قاطني قرطبة كانت دائما تفوق أعمال التوسعة، وعندما وصلت قرطبة إلى ذروة مجدها في عهد الناصر وبلغ عدد قاطنيها ما يقارب نصف المليون شخص، ضاقت جنبات الجامع الكبير بالمصلين، لذلك أمر المستنصر أن يبدأ عهده بالتوسعة على المصلين، فضاعف مساحة المسجد، وأنشأ المحراب الثالث، بالإضافة إلى قبة الجامع الضخمة التي زينت بفسيفساء بديعة أهداها أمبراطور الروم إلى المستنصر.

ورغبة من الحكم المستنصر في توفير المياه للمصلين من جبل العروس خارج قرطبة، أمر بمد قنوات المياه من الجبل وعيونه إلى ميضات الجامع التي أنشأها، كذلك أمر ببناء عدد من مقاصير الصلاة منها مقصورة للصدقة غربي الجامع، جعلها مقرا لتوزيع الصدقات، وأمر ببناء دار أمام باب الجامع الغربي خصصها للفقراء وأخرى خصصها للوعاظ وعمال الجامع.

بالإضافة إلى ذلك واصل الحكم المستنصر متابعة عمليات البناء في مدينة الزهراء حتى اكتمل بناؤها في نهاية عهده، وغدت أفخم مدينة ملكية في أوروبا كلها، كما قام الحكم المستنصر بإصلاح قنطرة قرطبة العظيمة على نهر الوادي الكبير، وتقوية دعائمها التي وهنت بمرور الزمن.

المكتبة الأموية

إلا أن أعظم منشآت قرطبة في عهد الحكم كانت بلاشك المكتبة التي سار بذكرها الركبان، وعدت واحدة من كبرى مكتبات العصور الوسطى، وبدأ الحكم المستنصر بتنظيم المكتبات الموجودة في قصور الخلافة الأموية التي تخلفت من أسلافه، خصوصا والده الناصر عبدالرحمن، ثم أخذ يراسل كبار المؤلفين والعلماء المسلمين في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، ليخصوه بالنسخ الأولى من مؤلفاتهم نظير أموال جزيلة، فاختصه أبوالفرج الأصفهاني بالنسخة الأولى من موسوعته ذائعة الصيت "الأغاني" قبل أن ينشره على طلبة العلم في المشرق، فأرسل إليه الحكم المستنصر ألف دينار من الذهب الخالص ثمنا للنسخة، وهو الأمر الذي كرره الحكم مع القاضي أبي بكر الأبهري، الذي حصل منه على النسخة الأولى لشرحه مختصر ابن عبدالحكم في فقه الإمام مالك.

وأرسل الحكم المستنصر مجموعة من مهرة الوراقين وجامعي الكتب في عواصم العالم الإسلامي الرئيسية بغداد والفسطاط ودمشق وغيرها لينقبوا له عن نوادر الكتب ونفيسها ويشتروها لحسابه، حتى اجتمع له من الكتب ما لم يسمع بمثله، وهو الأمر الذي أثار إعجاب مؤرخ الأندلس فقال: "لم يسمع في الإسلام بخليفة، بلغ مبلغ الحكم في اقتناء الكتب والدواوين، وإيثارها والهيام بها".

وعندما وجد الخليفة الحكم أن الأماكن المخصصة للكتب لم تعد تستوعبها، أمر بإنشاء المكتبة الأموية بالقرب من قصر الخلافة بقرطبة، فكانت صرحا عظيما حوى من الكتب الشيء الكثير، وروى ابن حزم الأندلسي أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعين فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط، وفي هذا ما ينبئ عن ضخامة هذه المكتبة التي عدت واحدة من أكبر مكتبات العصور الوسطى ولا تقارن إلا بمكتبات بغداد والقاهرة. ولم يعهد الحكم المستنصر بإدارة المكتبة والإشراف عليها إلا لأخيه عبدالعزيز بن عبدالرحمن الناصر، وبلغ عدد الكتب في المكتبة الأموية ما يزيد على 400 ألف كتاب، وألحق الحكم بالمكتبة معملا لتجليد الكتب، كما أقام معامل لصناعة الورق، خصوصا بمدينة شاطبة، وبلغ الورق الشاطبي شهرة كبيرة في العالم بأسره.

كذلك أمر الحكم المستنصر بتخصيص جزء من جامع قرطبة ليكون جامعة، تدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان أبوبكر بن معاوية القرشي أستاذ علم الحديث، بينما تولى أبوعلي القالي، الذي استدعاه الحكم من المشرق، تدريس الأدب العربي من لغة وشعر وأمثال، أودعها كتابه الشهير "الأمالي"، وعهد الحكم بالإشراف على الجامعة لأخيه المنذر.

بأعمال الحكم المستنصر الإنشائية تكون قرطبة اكتمل بهاؤها ووصلت إلى أوج عظمتها حتى قال فيها الشاعر:

بأربع فاقت الأمصار قرطبة منهن قنطرة الوادي وجامعها

هاتان ثنتان والزهراء ثالثة والعلم أعظم شيء وهو رابعها

وغدت قرطبة كما وصفها المؤرخ والأديب الحجاوي في كتابه "المسهب في غرائب المغرب" بقوله: "كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام ومجتمع أعلام الأنام بها استقر سرير الخلافة المروانية وفيها تمخضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية وإليها كانت الرحلة في الرواية، إذ كانت مركز الكرماء ومعدن العلماء وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد".

بالتوازي مع النهضة العمرانية كانت هناك نهضة فكرية وأدبية، قادها الحكم المستنصر نفسه، والذي عرف عنه عشقه لمجالسة العلماء ومطارحتهم المسائل العلمية، وكان يجد سرورا في الانتصار في تلك المسائل، وفي ذلك يقول المؤرخ الذهبي "كان ذا نهمة مفطرة في العلم والفضائل، عاكفا على المطالعة"، فقد كان الحكم المستنصر كذلك "عالما فقيها بالمذاهب، إماما في معرفة الأنساب، حافظا للتاريخ، جامعا للكتب، مميزا للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مصر وأوان، تجرد لذلك، وتهمم به، فكان حجة وقدوة، وأصلا يقف عنده"، على حد قول ابن الخطيب المؤرخ والأديب، وتنقل لنا كتب التاريخ أن الحكم المستنصر ألف كتابا في علم الأنساب حمل عنوان "أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب"، نقل منه علامة الأندلس ابن حزم وصرح في كتابه "جمهرة أنساب العرب" أنه ينقل صراحة من كتاب الخليفة الحكم المستنصر.

وكان المستنصر الحكم يجالس كبار العلماء يحيط بهم مجلس حكمه، فنبغ في عصره عدد من كبار العلماء، أمثال ابن القوطية صاحب كتاب "تاريخ افتتاح الأندلس" وأبوعبدالله الخشني الذي أهدى كتابه الشهير "قضاة قرطبة" للخليفة الحكم، كذلك اللغوي الكبير أبوبكر الزبيدي، الذي ألف كتاب "الأبنية في النحو" وكتاب "طبقات النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس"، ولعلمه وفضله اختاره الحكم المستنصر لتأديب ولي عهده وولده هشام، أما نديم الخليفة المفضل فكان العالم الكبير محمد بن يوسف الحجاري، الذي كان يواصل معه القراءة والدرس حتى الساعات الأولى من الصباح، وألف الحجاري العديد من المؤلفات الخاصة بتاريخ الأندلس بدعم من الخليفة نفسه.

ولم يكن محبة الحكم المستنصر في نشر العلم والمعرفة مقصورة على المسلمين فقط، بل ولغيرهم من المسيحيين واليهود، فكان الأسقف ريثموندو الإلبيري المعروف باسم ربيع بن زيد، الذي تبحر في علوم الفلك والفلسفة مقربا من الخليفة الحكم الذي تناقش معه في الكثير من المسائل الفلكية.

وأحاط الحكم النهضة في عصره بسياج من العدل والحق، فعندما رفع تاجر إلى قاضي قرطبة ابن بشير أنه ضاعت له جارية صغيرة، وأنها في قصر الخلافة، رفع القاضي الأمر للخليفة الحكم، فقال الحكم: نرضي هذا التاجر بكل ما عسى أن يرضى به، فقال ابن بشير: "لا يكمل عدلك حتى تنصف من نفسك، وهذا قد أدعى أمرا فلابد من إحضارها وشهادة الشهود على عينها"، فلم يجد الحكم إلا أن أحضر الجارية وأنصف التاجر.

هكذا وصلت النهضة إلى ذروتها في عهد الحكم المستنصر، فقد كانت دولته دولة حضارة وأدب، وغدت عملية ترجمة الكتب إلى العربية على قدم وساق، فغذت النهضة بروافد معرفية جديدة، وازدادت تلك النهضة قوة وعظمة عما كان في عصر الناصر عبدالرحمن، وعلى الجملة كان عصرا الناصر وولده المستنصر قمة الحضارة الإسلامية في الأندلس بلغت البلاد في عهدهما عظمة وجودها الحضاري ولم تعرف البلاد تلك العظمة مجددا إلا في عصر المنصور بن أبي عامر.

تأديب الإسبان

رغم انشغال الحكم المستنصر بأمور الأدب والفكر، إلا أنه لم ينس يوما أمور الحرب والقتال، فقد سار على السياسة التي استنها والده عبدالرحمن الناصر في تقليم أظافر إمارات الإسبان في الشمال، وتحجيم النفوذ الفاطمي في المغرب الأقصى، وهي السياسة التي نفذها الحكم المستنصر على أكمل وجه.

كانت ممالك النصارى الإسبان تشهد تطورا خطيرا في تلك الأثناء فقد أعلن الكونت فرنان كونثالث (المعروف باسم القومس فران جونزالس) استقلاله ببلاد قشتالة (بلاد القلاع) عن مملكة ليون، معلنا بذلك ميلاد مملكة قشتالة القوية، التي تعد واسطة عقد الممالك النصرانية وفي الطليعة منهم في مواجهة الأراضي الإسلامية الأندلسية، وتميز أهلها بشراستهم وصلابتهم نظرا لظروف إمارتهم الجبلية وقربهم من الأراضي الإسلامية.

رأى الكونت فرنان أن يعمل على تأكيد شرعية مملكته الجديدة بمهاجمة الأراضي الإسلامية القريبة منه، فنظم عددا من الغارات التي أثارت الرعب في قلوب المسلمين القريبين منه، في وقت أعلن فيه ملك ليون سانشو الأول عدم إذعانه وتنفيذه للاتفاق الذي وقعه مع الخليفة الناصر بتسليم عدد من الحصون الحدودية للأمويين نظير مساعدتهم له في استرداد عرشه، إلا أن ملك ليون استغل وفاة الخليفة الناصر ليتبرأ من اتفاقه معه.

أمام هذه التغيرات التي تعني تحدي الممالك الإسبانية لسلطة قرطبة، رأى الحكم المستنصر أن يقوم بعمل حربي يعيد سيادة الأمويين غير منقوصة في الشمال ويجبر الممالك النصرانية على الدخول في الطاعة إذا أبت.

لذلك أمر الحكم المستنصر بالنفير العام واستجاش القوات من أقاليم الأندلس المختلفة، وخرج بنفسه على رأس قوات قرطبة، المعروفة بجيش الحضرة، وتجمعت قوات المسلمين في طليطلة في سنة 352هـ/963م، وما إن وصلت أنباء تقدم الخليفة الأموي على رأس قواته، حتى دب الفزع والرعب بين ملوك النصارى ورأوا أن لا قدرة لهم على مواجهته فرادى وأن الحل هو الاتحاد والعمل المشترك من أجل إلحاق الهزيمة بهذا العدو الخطر، فعقد ملك ليون سانشو الأول تحالفا مع قومس قشتالة وملك نافار غرسية سانشيز وكونت برشلونة، واستعدوا لمواجهة التقدم الإسلامي المرتقب.

لم تغن تحالفات الإسبان شيئا أمام قوة الجيوش الإسلامية التي اجتاحت مملكة قشتالة الوليدة، وأسقطت عددا من أمنع حصونها، ثم تقدم الحكم المستنصر إلى مملكة نبرة، حيث واجه قوات نبرة وليون التي قادها ملكا البلاد، لكن الحكم أنزل بالحليفين هزيمة ساحقة، بينما قامت قوات أندلسية بمهاجمة مملكة نافار وأنزلوا بها هزائم متتالية افتتحوا خلالها عددا من أبرز حصونها، واستمرت الحرب سنتين استطاع خلالها الحكم المستنصر أن يؤدب الممالك الإسبانية وأظهر سطوة قرطبة على الجميع، فلم يجدوا مفرا من طلب الصلح والدخول في الطاعة من جديد.

فعادت من جديد قرطبة تستقبل وفود الممالك النصرانية تطلب الدخول في طاعة قرطبة، وبدأت الوفود تتقاطر منذ سنة 355هـ/966م، ولم تمض أعوام قليلة إلا وكان ملوك الإسبان اعترفوا بسيادة قرطبة وهي حقيقة يقررها المؤرخ بيدال عندما قال "وصلت الخلافة الأندلسية في ذلك العصر إلى أوج روعتها، وبسطت سيادتها السلمية على سائر إسبانيا، وكفلت بذلك السكينة العامة".

ومن أجل أن يكرس المستنصر الأمن في حدود الأندلس الشمالية، جعل للثغور جيشا خاصا بها مركزه مدينة سالم، وبعض أقسامه في المدن الأخرى المهمة كمجريط ووادي الحجارة وغرماج، وحرص على إمداده بالمؤن والأسلحة، في حين جعل بقرطبة جيشا آخر، مركزه في مدينة الزهراء، عرف بجيش الحضرة، كان الخليفة الحكم يتولى قيادته شخصيا أو ينيب عنه في قيادته من يرى من رجاله.

ما كاد الحكم المستنصر يؤمن بلاده من هجمات الإسبان بعد إخضاعهم، إلا وفوجئ بخطر قديم يطل برأسه من جديد على بلاد الأندلس، ألا وهو خطر الفايكنج (النورمان)، الذين هاجموا الأندلس بحرا لأول مرة في عام 229هـ/843م، في عصر الأمير عبدالرحمن الأوسط، فقد هاجموا السواحل الغربية للأندلس في سنة 355هـ، إلا أن القوات الأندلسية واجهت محاولات الفايكنج التي هاجمت ثغر قص أبي دانس، شرقي لشبونة، وهزمت الفايكنج عند مصب نهر شِلب، وأجبرتهم على الفرار صوب الشمال، وأمر الحكم المستنصر بزيادة عدد سفن الأسطول الغربي المطل على البحر (المحيط الأطلسي) وتقوية الحصون والثغور هناك والتيقظ لمواجهة أي هجوم محتمل من قبل الفايكنج غزاة الشمال.

ثورة ابن قنون

لم يعد هناك من أخطار تهدد الأندلس إلا ذلك الخطر القابع في بلاد المغرب المتمثل في الخلافة الفاطمية التي كانت تجاوز في تلك الفترة أوج عظمتها، في ظل خلافة المعز لدين الله أشهر وأقوى خلفاء تلك الدولة، الذي استطاع الارتقاء بالدولة الفاطمية إلى مصاف القوى العظمى في العالم، وبدأت قواته تفرض سطوته ونفوذه شرقا وغربا على حساب أملاك العباسيين في المشرق ونفوذ الأمويين في المغرب الأقصى.

كما استطاع سيد قبائل صنهاجة بلكين بن زيري وقائد الفاطميين إلحاق هزيمة مدوية في سنة 361هـ، بزناتة حلفاء الأمويين في المغرب الأقصى، ودخل في طاعته الحسن بن قنون سيد الأدارسة واعترف بالفاطميين سادة له متخليا عن سيده الحكم المستنصر، الذي رأى في ما يحدث في المغرب الأقصى تطورا سياسيا خطيرا، بعد أن استطاع ابن قنون دخول طنجة وضمها إلى سلطانه، ورغم محاولات الحكم المستنصر الأولية لإعادة نفوذه إلى المغرب الأقصى إلا أن ابن قنون استطاع أن يثبت لها وأن يهزم قوات قرطبة تباعا.

لم يجد الحكم المستنصر مفرا من إرسال أكبر قواده غالب بن عبدالرحمن، وكلفه بمهمة القضاء على ابن قنون وإعادة النفوذ الأموي كاملا غير منقوص في بلاد المغرب الأقصى، وقال له: "سر يا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع، إلا حيا منصورا، أو ميتا معذورا، وابسط يدك في الإنفاق، فإن أردت نظمت للطريق بيننا قنطار مال". لم يخيب غالب رجاء مولاه الحكم المستنصر واستطاع أن يعيد النفوذ الأموي كاملا إلى بلاد المغرب الأقصى ودخل قلعة حجر النسر معقل ابن قنون والإدارسة، وحمل أثناء عودته إلى قرطبة ابن قنون ذاته أسيرا، بذلك تكون الخلافة الأموية بسطت سلطانها على بلاد المغرب الأقصى في عهد الحكم المستنصر.

وبذلك قضى على أعدائه الواحد تلو الأخر واستطاع أن ينقل معاركه معهم إلى أراضيهم فحافظ بذلك على الأمن والسلم في ربوع الأندلس طوال عهده، وعندما وافته المنية في 2 صفر من سنة 366هـ/ 30 سبتمبر سنة 976م، لم يجد من يخلفه على عرش قرطبة إلا ولده هشام الذي لم يكن قد جاوز الخامسة عشرة من عمره، فكان وصوله إلى سدة الحكم نذير تحول خطير في مستقبل الخلافة الأموية ودولة الإسلام على حد سواء.

وكان وصول طفل على عرش قرطبة إشارة البدء لصراع كبار رجال الدولة الأموية فانقسم رجال الدولة بين معسكرين، فمال العسكريون بزعامة فائق وجؤذر من الصقالبة إلى تنحية هشام لصغر سنه، وتولية عمه المغيرة، ومال فريق الوزراء ورجال الإدارة بزعامة الحاجب جعفر ومحمد بن أبي عامر إلى تنفيذ وصية الخليفة الحكم المستنصر، وتحققت رغبة الفريق الأخير بعد تصفية أنصار الفريق الأول.