يقول الشاعر البولندي تشيسلاف ميلوش، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1980: "عندما يولد كاتب في أسرة، تنتهي الأسرة". ويُدرك كنه هذه العبارة الموجعة، كل من عاش ولع الكتابة. فالكتابة لا تنفك تهمس في فكر وقلب صاحبها: كن لي وحدي أكن لك، ولحظة تبتعد عني سأنكر معرفتي بك، وعنك سأبتعد أكثر. وربما هذا ما دفع الكاتب الأميركي فيلب روث المولود عام 1933، وهو على عتبة عامه الثمانين، إلى أن يتخذ قرار اعتزال الكتابة، بعد أن تعِب من دلالها وتمنعها، وبعد أن حفر اسمه في سجل الرواية الأميركية والعالمية المبدعة، ووصلت كتاباته إلى ملايين البشر في مختلف أنحاء المعمورة.

Ad

نشر فيلب روث أول رواياته عام 1959 "وداعاً كولومبس-Goodbye Columbus"، لتتولى إصداراته المبدعة دون انقطاع، بما يقارب خمسا وعشرين رواية. وإذا كان من الصعب على أي روائي أن تبقى أعماله المتوالية في خط بياني متصاعد، فإن إخلاص روث للكتابة الروائية وموهبته الرفيعة منحاه القدرة على كتابة أعمال نالت من التكريم والجوائز الأميركية والعالمية الكثير، ما جعله مرشحاً دائماً لجائزة نوبل للآداب. وربما كان شعوره بأنه قدم أقصى ما عنده جعله يصرّح لمجلة "Les Inrocks" : "كي أكون صادقاً معكم، فإنني قد انتهيت". وإذا كان روث قد ابتعد وهو في قمة عطائه، فإن أعماله الروائية ستُخلد اسمه في سجل عظماء الرواية الأميركية في القرن العشرين.

عام 2010 نشر روث آخر رواياته "نِميسيس" التي تُعد الجزء الأخير من رباعيته "كل رجل" 2006، و"سخط" 2008، و"الإذلال" 2009. وجسّد من خلالها حياة الأميركي اليهودي وعلاقته في محيطه المعيشي والإنساني.

في روايته "سخط" الصادرة عن منشورات الجمل، بترجمة لافتة لخالد الجبيلي، يقدم روث رواية تبقى في الذاكرة، فهي تحكي قصة الطالب الجامعي "ماركوس" الذي يهجر بيت العائلة، الأب الجزار والأم المساعدة، ويسافر للدراسة الجامعية، أثناء اشتداد أزمة الحرب بين الصين وكوريا الشمالية من جهة، وبين الأميركيين والكوريين الجنوبيين من جهة ثانية. وإذا كان الشاب "ماركوس" قد دخل الجامعة بنية نيل شهادة المحاماة التي ستبعده عن أهوال الحرب المتوحشة، فإنه سرعان ما يصطدم بعقبات الحياة الجامعية، التي يستعصي عليه التكييف معها، وينتهي به المطاف جنديا مقطع الأوصال يهذي بأحداث الرواية "تحت تأثير المورفين".

إن القارئ في اجتيازه لعوالم الرواية، يدرك تماماً اختيار فيلب روث الموفق لعنوانه "سخط-Indignation" فكل ما في الرواية يرشح بالسخط والغضب الذي يعيشه أبطال الرواية، بدء من الشاب ماركوس، مروراً بحبيبته التي وشم رسغها إثر محاولة انتحارها، وصديقه الذي تنتهي حياته في حادثة تصادم سيارته بالقطار، ووالدته التي تفكر بالطلاق ابتعاداً عن أبيه، وطلاب الجامعة الذين يهاجمون في لحظة غضب سكن الطالبات الجامعيات ويعبثون به لحين تدخل الشرطة وإيقاف سخطهم المجنون، وانتهاء بالمعركة التي تجري على أرض كوريا، بين الجنود الصينيين وبين الأميركيين، ويذهب ضحيتها بطل الرواية مع كثير من أعضاء كتيبته.

لقد اختار فيلب روث لروايته صيغة ضمير المتكلم، لتأتي أقرب ما تكون إلى قلب القارئ، وهو يستمع إلى بوح حميم من الشاب "ماركوس" بدواخل وساوسه وخيالاته وعذاباته بلهفته على محبوبته "أوليفيا"، كما أن لغة الرواية جاءت من الشفافية والصدق الفني بما يجعل منها قطعة شعرية جميلة، وبترجمة متمكنة تساعد على معايشة أدق حوادث الرواية.

لقد تسيّدت الرواية المشهد العالمي خلال العقود الأربعة الأخيرة، لكن كتّاباً بعينهم استطاعوا أن يصلوا بأعمالهم إلى قراء العالم، ومؤكد أن رواية "سخط" لفيلب روث هي واحدة من الروايات الخالدة.