"إن العجز أمر ضار دوما"، هكذا يؤكد الصقور الماليون، ولكن في كتابه الجديد المشوق الصادر بعنوان "الموقف الأميركي العصيب"، يرد المحلل الاستثماري الاستراتيجي "هـ. وود بروك" قائلاً: "إن هذا غير صحيح"، ويزعم أن التقييم السليم يعتمد على "تركيبة ونوعية الإنفاق الحكومي الإجمالي".

Ad

إن العجز الحكومي المترتب على الإنفاق الحالي على الخدمات والتحويلات ضار، لأنه لا ينتج أي عائد ويضيف إلى الدين الوطني. أما العجز الناتج عن الإنفاق الرأسمالي فهو على النقيض من ذلك مفيد، أو من الممكن أن يكون مفيدا. وإذا أدير بحكمة فإن مثل هذا العجز قادر على إنتاج تدفق من العوائد الكافية لخدمة الدين ومحوه في نهاية المطاف؛ والأمر الأكثر أهمية هو أنه يعمل على زيادة الإنتاجية، وبالتالي تحسين إمكانات النمو لأي بلد في الأمد البعيد.

وانطلاقاً من هذا التمييز تتبع قاعدة مالية مهمة: وهي ضرورة موازنة الإنفاق الحكومي الحالي بالضرائب.

وفي هذا النطاق فإن الجهود المبذولة اليوم لخفض عجز الإنفاق الحالي لها ما يبررها، ولكن شريطة إحلالها بشكل كامل ببرامج الإنفاق الرأسمالي، والواقع أن خفض الإنفاق الحالي وزيادة الإنفاق الرأسمالي لابد أن يتما بشكل متزامن.

وعلى حد زعم بروك فنظراً لحالتها الاقتصادية الحالية لا تستطيع الولايات المتحدة أن تعود إلى التشغيل الكامل للعمالة على أساس السياسة الحالية، فالتعافي ضعيف للغاية، والبلاد تحتاج إلى استثمار نحو تريليون دولار إضافية سنوياً لمدة عشرة أعوام في مرافق النقل والتعليم. وينبغي للحكومة أن تؤسس بنكاً للبنية الأساسية الوطنية بهدف توفير التمويل اللازم من خلال الاقتراض المباشر، واجتذاب الأموال من القطاع الخاص، أو بالاستعانة بمزيج من الأمرين. (ولقد اقترحت إنشاء مؤسسة مماثلة في المملكة المتحدة).

إن التمييز بين الإنفاق الرأسمالي والحالي (وبالتالي بين العجز "المفيد" والعجز "الضار") يُعَد أمراً عتيقاً حتى بالنسبة إلى أي طالب يدرس التمويل العام، ولكننا ننسى معارفنا بسرعة مخيفة حتى إن الأمر يحتاج إلى الإقرار بهذا الأمر من حين إلى آخر، وخاصة في ظل وجود صقور العجز في السلطة في المملكة المتحدة في أوروبا، ولو أنهم لحسن الحظ لم يصلوا إليها في الولايات المتحدة (حتى الآن).

ووفقاً للمقترحات التي تم الاتفاق عليها في اجتماع غير رسمي للمجلس الأوروبي جرى في الثلاثين من يناير، فمن المفترض أن تعمل كل بلدان الاتحاد الأوروبي على تعديل دساتيرها من أجل تقديم قاعدة الموازنة المنضبطة التي تحدد سقفاً للعجز البنيوي السنوي بما لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي. ولا يمكن رفع هذا السقف إلا في حالات الكساد العميق أو غير ذلك من الظروف الاستثنائية، بحيث يُسمَح بتبني سياسة مواجهة التقلبات الدورية مادام من المتفق عليه إن العجز الإضافي دوري، وليس بنيويا. وخلافاً لذلك فإن أي مخالفة تؤدي بشكل تلقائي إلى غرامات قد تصل إلى 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي.

وتُعَد المملكة المتحدة واحدة من دولتين (إلى جانب جمهورية التشيك) رفضتا التوقيع على هذه "الاتفاقية المالية"، التي كان قبولها مطلوباً للحصول على حق الوصول إلى أرصدة الإنقاذ الأوروبية. ولكن حكومة بريطانيا لديها هدف مماثل يتلخص في تقليص عجزها الحالي الذي بلغ 10% من الناتج المحلي الإجمالي إلى صفر في غضون خمسة أعوام.

ومن بين الحجج التي نسمعها عادة في دعم مثل هذه السياسات أن "حراس السندات" لن يطالبوا بأقل منها، وتمويل بعض الحكومات الأوروبية (وحكومات أميركا اللاتينية في الماضي القريب) كان محفوفاً بالمخاطر إلى الحد الذي يجعل من رد الفعل هذا أمراً مفهوما.

ولكن هذا لا ينطبق على الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، اللتين تعانيان عجزاً مالياً ضخماً، وكانت أغلب الدول ملتزمة بالضوابط المالية المحكمة إلى حد معقول قبل أن تؤدي الأزمة في عام 2008 إلى تقويض بنوكها، وخفض عائداتها الضريبية، ودفع ديونها السيادية إلى الارتفاع.

وفي الوقت نفسه، لا ينبغي لنا أن نعزو التحمس الحالي لخفض الإنفاق المالي إلى مثل هذه الاحتمالات، ففي جوهرها يكمن اعتقاد مفاده أن أي إنفاق حكومي أعلى من الحد الأدنى الضروري يُعَد إسرافا. وفي أوروبا هناك أمثال أنصار حزب الشاي الذين يكرهون دولة الرفاهة ويريدون إزالتها أو تقليمها بشكل جذري، والذين هم على اقتناع بأن كل الإنفاق الرأسمالي الذي ترعاه الدولة مجرد "تضليل"، حيث لا يتعدى الاستثمار في العديد من الطرق والجسور وخطوط السكك الحديدية التي تقود إلى لا مكان والتي تهدر أموالها على الفساد وعدم الكفاءة.

وهؤلاء المؤمنون بهذا لا يبالون كثيراً بما يميز الكثير من إنفاق القطاع الخاص من الفساد وإهدار الموارد، فهم يفضلون الإهدار التام المتمثل بالسماح للملايين من البشر بالجلوس بلا عمل (يعتقد بروك أن 16% من قوة العمل الأميركية عاطلة عن العمل، أو شبه عاطلة، أو محبطة إلى الحد الذي يجعلها عازفة عن البحث عن عمل) على الإهدار الجزئي المحتمل الناتج عن البرامج التي توفر لهم العمل، وترعى مهاراتهم، وتزود البلاد بالأصول.

وبوسع المرء أن ينتقد تفاصيل حجة بروك: ذلك أن الفهم الأعمق لمبادئ كينز كان سيمنحه استجابة أكثر إقناعاً لاعتراض مفاده أنه إذا كانت المشاريع التي تمولها الدولة تستحق الإنفاق عليها فإن القطاع الخاص كان سيقوم بها. قبل أن يمر وقت طويل سوف يكون لزاماً علينا أن نقدم الإجابات عن هذه التساؤلات، لأن القواعد المالية السابقة للركود والتي يسعى الأوروبيون عبثاً إلى تعزيزها لم تكن كافية لتلبية الغرض منها.

إننا بعيدون كل البعد عن التوصل إلى نظرية في سياسة الاقتصاد الكلي لتفسير ما بعد الركود، ولكن بعض العناصر واضحة. ففي المستقبل، لابد أن تعمل السياسة المالية والنقدية بشكل تعاوني: فليس بوسع أي من السياستين أن تعمل بمفردها على تثبيت استقرار اقتصادات السوق غير المستقرة بطبيعتها. وسوف يكون لزاماً على السياسة النقدية أن تفعل أكثر مما فعلته قبل عام 2008 لكبح جماح "الوفرة الطائشة" في الأسواق المالية. ونحن في احتياج إلى نظام جديد واضح للمحاسبة المالية يميز بين الإنفاق الحكومي الممول بعائدات الضرائب والإنفاق العام الذي يمول نفسه.

وفي المقام الأول من الأهمية، يتعين علينا أن ندرك أن دور الدولة يذهب إلى ما هو أبعد من الحفاظ على الأمن الخارجي وفرض القانون الداخلي وحفظ النظام، فكما كتب آدم سميث في كتاب "ثروة الأمم":

"إن الواجب الثالث والأخير للدولة ذات السيادة... يتمثل بإقامة وصيانة هذه المؤسسات المالية والأشغال العامة، التي قد تكون بالغة الفائدة لأي مجتمع عظيم إلا أنها رغم ذلك تتسم بطبيعة تجعل الربح لا يغطي التكاليف على الإطلاق بالنسبة إلى أي فرد، أو أي عدد صغير من الأفراد؛ والتي لا يمكن بالتالي أن نتوقع أن يتولى أي فرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد إقامتها أو صيانتها".

ومن أهم هذه الأشغال العامة في نظر سميث تلك التي تعمل على "تسهيل التجارة في أي بلد، مثل الطرق والجسور والقنوات المائية والموانئ الجيدة، إلى آخر ذلك". ومن بين القطع الأخرى من المعرفة المنسية والتي ذكرها سميث أيضاً أهمية التعليم، وهو محق في ذلك مهما بدا لنا من سلوكيات الكثير من صقور العجز أن العكس هو الصحيح.

* روبرت سكيدلسكي، عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»