"بحر أكثر"، كتاب سيرة روائية للكاتبة اليوغوسلافية، الحائزة جائزة الأدب السويسرية عام 2010 "إلما راكوزا".

Ad

وهو ليس رواية بالمعنى الكامل للرواية، لأنها ليست متقيدة بالمضمون ولا بالشكل الروائي الذي يتعامل مع حركة الشخصيات وزمانها ومكانها، ولكنها مع ذلك فهي رواية، وإن لم تلتزم بالشكل الفني الصارم للرواية، ولم تلتزم بالشكل المعروف للسيرة الذاتية التي تحكي غالبا عن صاحب السيرة وحياته مع محيطه من الأفراد الذين يعيش معهم إلا بذكر بعضهم بشكل ليس كاف، ويبقى القسم الأكبر لذكريات الأمكنة والرياح والأنهار والروائح، بشكل عميق مؤثر خارجاً من حنين الروح وحواس الجسد كلها، والرواية تدور في عوالم هذه الأمكنة المعيشة والمفتقدة الى الحنين النابض الذي لا يهدأ.

ولأول مرة أجد كاتبة أتماثل معها في قوة المشاعر الحسية النابعة من خلايا شبكة الأعصاب التي يدير محركها ذاكرة الروائح بالذات، والتي تحرك دوافع الحنين السرية الغامضة ولا تسمح بنسيانها لأن النسيان كما كتبت يرضخ للرائحة، لدرجة أشعرتني أنني من يكتب ويخوض ويعانيها، فكل ما يتعلق فيها كنت قد كتبت بعضا منه في رواياتي والبعض الآخر سيأتي لاحقا، والغريب أيضا هو تماثلنا في الطباع مثل حب السير والمشي حتى الإجهاد أو ما أسمته شاعرية الانهيار، فقط لمجرد الاكتشاف والمعرفة والفضول لما تخفيه البيوت والأسيجة، وعشق تصفح الأطالس لاكتشاف خرائط المدن، إضافة الى اشتراكنا في تأليف الحكايات وتأويلها من رؤية وجوه الناس وحركتهم ورسم مصائرهم والرغبة الشديدة لمعرفة ما خلف ستائرهم، كذلك الخوف من الارتباطات أياً كان نوعها، وكره لغة المعادلات والأرقام، ودروس الرياضة البدنية وكل الأعمال الجماعية، وأنا أيضا مثلها أفتقد الى روح الفريق التعاونية، كما نتشابه في الساعة البيولوجية الليلية وافتقاد المألوف والحنين إلى المجهول أو ما صورته بكائن الافتقاد، وخزان الذاكرة المنسي الذي تفجره كلمة، كل ذلك الاهتياج الذي يؤدي إلى الاندفاع بشغف وهوس خلف أي فكرة أو تصور فني أو أدبي أو حتى حياتي، أو ما سمته بامرأة الاندفاعات التي يكتنفها التشتت وتبديد الجهود في الركض خلف الرغبات المبهمة والنداءات الفوضوية الغامضة، وحب القيام بالعمليات الإحصائية لكل شيء ولأي شيء، كثيرة هي الأشياء التي جمعتنا والتي أشعرتني بهذا التقارب الغريب رغم بعد المسافات واختلاف تربة النشأة.

إلما راكوزا كتبت روايتها بقلم الحنين الجارف النابع من مجسات ذاكرة الحواس كلها التي قبضت على ما عاشته بأجمعه فلم تترك نتفا أو فتفوتة منه تضيع أو تغيب، وساعدتها اللغة الشعرية التي ترن في الروح وتترك للمساتها أصداء شكلت رؤية العالم على شاكلتها، فباتت كل الحياة ملتبسة بشاعرية رهيفة نابضة بالاشتياق والحنين لتلك الأمكنة المهجورة وحقائبها المستعدة للترحال الى أماكن لا تعرف معنى الاستقرار، ولا يوجد ما يمكن أن يتمسك المرء به غير حنينه لها ولسمواتها وأشجارها وأنهارها وبحارها وناسها ولغاتها ونقاط حدودها ومعابرها، كلها ارتسمت وانطبعت بالذاكرة لتولد مرة تلو المرة في حياة ذاكرة كاتبتها التي لا تغيب والتي ولدتها في وصف هائل منطلق من عقاله لم يتقيد بأي قيود، ليدوّم في الخيال ويمزجه بالواقع الذي لا تدري ان كان خيالا أم واقعا فقد اختلط فيه الزمان والمكان وضاعت فيه التواريخ التي لا تلزم الأحداث والحكايات والصور، تتأرجح في عمر امرأة تتقدم أو تتأخر بحسب رؤيتها وإحساسها الفني، لهذا اختلطت ذاكرة والدها بالغابات وجدتها بالطعام وذاتها "تنتفت" وذابت مع أمواج البحار وجليد الأنهار وجادات الشوارع ومستنقعات الطيور وبحيرات وأصداف وطين وموسيقى وشتاء قارص وصيف قائظ وربيع وزهور وصداقات وعلاقات مع مدن وناس تستمر وتنقطع مع حكايات وثرثرات لأزمنة مهمة شكلت ذائقة العالم الثقافية كلها كُتبت في معان تذهل القارئ وتشعل القلب بالرغبات والعقل بمئات الصور لتفاصيل حياة مكتنزة بهذا الكم الهائل من الحركة والسكون للاكتشافات والترحال والحياة بفتح جميع مساماتها وتوسيع فضاء الحواس وحجرات الأفكار من دون أي حواجز فكرية عقائدية، وهو ما فعلته إلما راكوزا بنفسها وبقارئها.

هذه الرواية التي جاءت هجينة ما بين السيرة والرواية هي أجمل من الاثنين، وأهم منهما، فشكرا لمشروع "كلمة" من أبوظبي عاصمة دولة الامارات على هذه الاختيارات المهمة الراقية.