في هذه الأيام أعيش في الكويت أجمل أيامي، أستعيد حضور ذاكرتي فلا أسمح لها بالتسرب من خلايا يحاصرها الثلج في الغياب. في هذا العام، كما في الأعوام السابقة، يعيدني معرض الكتاب الى أحضان الأحبة لترافقني كتبهم الى منفاي الاختياري، يعيشون معي سنة كاملة لا أفارق كلماتهم ونصوصهم لسنة طويلة كاملة. وفي كل سنة أحاول رصد ما يكتبه الزملاء القدامى الذين أعرفهم وأسماء لا أعرفها تبعث الي بالتفاؤل وشعور بالارتياح عن مستقبل الكتابة الابداعية في الكويت.

Ad

كانت دلال جازي في كتابها الأول، تشريح الأرنب الأبيض، مفاجأة العام المنصرم ومبشرة بتطور النص الأدبي ليخرج ليس فقط من دائرته المحلية والعربية ولكن أيضا للوصول بثقة كبيرة الى مجاراة النص الابداعي في العالم. وان كانت دلال جازي لها وقع المفاجأة كونها ليست علما ممارسا للعمل الأدبي من قبل فإن نشمي مهنا يتكئ على ماض لا بأس به من ممارسة الكتابة الابداعية. هو صاحب تجربة في التجريب يتوجها هذا العام بديوان شعر مليء بالثقة بالنفس وبالنص الذي يطرحه.

نشمي مهنا لا يهاب المغامرة في قصيدة النثر ولا يخشى خطورتها ووعورة دروبها ومسالكها، ولذا جاء نصه "الآتية كغد مألوف" الصادر عن دار"مسعى" متماسكا خاليا من الثغرات تدعمه خبرة الشاعر أدبا والانسان حياة. يحتاج نص مهنا الى مساحة من النقد تليق بمضامين النص الحداثية لكننى سأكتفي بالاشارة الى استيعاب الشاعر لمفهوم التناص أو تداخل النصوص كما أفضل ترجمة مصطلح intertextuality، ليس فقط بالاحالة الى نصوص سابقة ولكن لاستيعاب معاني نص الكاتب من خلال فهم القارئ وليس الشاعر لتلك النصوص السابقة، وسأركز على ابداع الشاعر في خلق صوره الحسية بعيدا عن فجاجة التصوير الايروتيكي أو التشبيه المباشر لقول ما لا يريد قوله مباشرة. ما يقدمه الشاعر هو مساحة واسعة للقارئ لممارسة الكتابة الموازية للنص وليس للفهم المعتمد على التلقي أو على ممارسة الشاعر وحيدا للفعل الكتابي.

في نص بعنوان "يحشو فراغاتها بالجمرات" يختتم الشاعر النص هكذا:

في هذه الظهيرة/ حيث الملل الكوني – المسجى على أفق بحري منسي ــ تستبد به الرعشة الأولى/ مثل صرخة خطفها الضوء من رحم مثقل/ يلسعها الماء/ بغموضه/ ويحشو فراغاتها بجمر كثيف.

يمتلك القارئ هنا حريته الواسعة في تحويل المشهد الى مشاهد قد ترتبط مع بداية النص، وربما ينفصل بالخاتمة انفصالا تاما ليخرجها من فضاء النص الى فضاء القارئ التصويري الخاص واعادة تشكيل الكتابة مستقلا بكل عنصر من عناصر الصورة واحالتها الى دلالاتها الموحية للخروج بمشهد الكتابة الثانية دون عناء البحث في المشهد الذي يحاول الشاعر الايهام به.

نشمي مهنا لا يقدم نصا حداثيا في الشكل فقط وانما حداثيا بابعاده ومضامينه معتمدا على قارئ يستطيع أن يمارس الكتابة معه لا أن يعتمد عليه كصاحب نص يمتلك السطوة الوحيدة عبر النص على مخيلة القارئ. هذه المشاركة في الفعل الكتابي تتجسد مرة أخرى في نص "جدنا الحنون" وأيضا في خاتمة النص.

تذكرت أني ارتديتك في وحدتي تلك الليلة/ ومعا عبثنا بمقولة كامو" السفر عري"/ وفككنا معانيها زرا.. زرا!

سأظل متفائلا في العام القادم بكتاب مبشرين يجمعهم الوعي بالكتابة الحداثية واستيعابهم التجربة العالمية، مخلصين للكتابة والكتابة فقط.