الشكلانية الجديدة
يفترض وعينا الشعري منذ الجاهلية قداسة ما للشكل، تمنحه صفة الخالد والمطلق. حدث هذا مع عمود الشعر، وحدث ثانية مع الشعر الحديث الذي اعتمد وحدة التفعيلة، وثالثة مع دعوى قصيدة النثر. ولأن هذه الأشكال لم تتناوب بسبب المراحل وحدها بل تتراكم، فإن وجود أحدها يشكل انتهاكا لقداسة الآخر. بالمقارنة يعتمد الوعي الشعري الغربي ديناميكية الريبة والشك، فهو دائم الالتفاف على السائد ولكن من دون تكفير. ودائم الطمع بالبدائل الملائمة لحاجته ولكن من دون قداسة.
تيار «الشكلانية الجديدة» (New Formalism) واسع الانتشار في الأدب الأميركي منذ الثمانينيات. وهو يمثل، بأبسط سبل التعريف، عودة إلى الأشكال الموروثة في الشعر الانكليزي: إلى القصيدة الغنائية والقصيدة القصصية، وإلى الوزن والقافية. وهذه العودة لا تشكل ارتكاسا في وسط لا يحتفظ بقداسة للاشكال، بل هي ضرب من المقاومة لسيادة مرحلة شعرية سبقتها، كان فيها «الشعر الحر» هو الشكل الشائع. والشعر الحر في الانكليزية ليس هو ذاته في العربية. فهناك يعتمد إيقاعات لا تتلاحق شأن التفعيلة، كما يعتمد القافية أحيانا. هذا الشكل بدأ مع مدرسة «الحداثة» وتناوبت عليه المدارس الشعرية المختلفة، وآخرها منذ الخمسينيات الأميركية: البيتس، والتصويريون العميقون، والاعترافيون. واستغرقت هذه المدارس شكل القصيدة الحرة استغراقا كاملا، وأصبحت عدّتها الجمالية مسيسة، بحكم معايير حركات الاحتجاج الاجتماعية المتعددة التي تفشت في الأوساط الجامعية خاصة. في الستينيات والسبعينيات ولد جيل وجد في مرحلة نضجه الشعري أن خطواته ذهبت، أو دُفعت، بعيدا عن المصادر الثرة للشعر الانكليزي، وأصبح «شكل» الحداثيين، على طلاقته، محدودا. فنظرية «عفوية» الشكل (الشكل الذي يفرضه نمو القصيدة الداخلي) الذي يتيح للشعراء فرصة التعبير عن أصواتهم «الفردية» لم تعد توفر أسسا جمالية للوفرة أو التنوع. وأصبحت العودة إلى الشكل «الميكانيكي» الذي وفره الموروث بكل تنوعه، ومن ضمنه الوزن والقافية، موضعا سحريا للاختبار والاستكشاف. إن شعراء «الشكلانية الجديدة» (براد ليتوسر، تيموثي شيل، موللي بيكوك، دانا جيويا، جارلس مارتن وآخرون) أدركوا بصورة غريزية محدودية القيم الجمالية، التي طرحت جانبا القيود التي كانت ومازالت تشكل عماد الشعر لقرون عدة. التيار الشكلاني ليس طارئا على الشعر الغربي. فقد بدأ كموجة محافظة في روسيا (1917)، معنياً بالشكل والأسلوب والتقنية في الفن فقط، وسرعان ما انحدرت هذه الموجة في الثلاثينيات، بعد حصار الواقعية الاشتراكية، إلى براغ، ثم هاجرت إلى أميركا على هيئة «شكلية أكاديمية» محافظة في الخمسينيات. «الشكلانية الجديدة» الشابة، وقد هيمنت على الثمانينيات والتسعينيات، تميل إلى اللغة الشعبية المباشرة، وتستقي مضامينها حرة من الحياة اليومية، مقارنة بميل الشكلانية للقاموس الشعري الرفيع. وأمام الطبيعة الفردية للشعر «الاعترافي» وعاطفيته، استطاعت موجة «الشكلانية الجديدة» أن تنتصر من جديد للقصيدة «الغنائية» من جهة، وللقصيدة «الحكائية» الطويلة من جهة أخرى. وهما شكلان أطفأتهما «القصيدة الحرة». أما انسحاب الشعراء إلى الحوار الدرامي والسياق القصصي فجاء على أثر الضيق الذي ألم بهم من طبيعة «السيرة الذاتية» للقصيدة السابقة، ملتفين إلى حقيقة «ان حياة الآخرين لا تقل أهمية عن حياتهم هم»، وبذلك يحققون الفضائل التي تنطوي عليها الرواية، وفضائل الشكل القديم الذي ازدهر على يد أعمدة الشعر الإنساني: منذ ميلتون وبوشكين وبايرون وبراوننغ، وتنيسون... حتى روبرت فروست. ثم ان بيت الشعر ينطوي على حسنات يفتقدها النثر، أولاها إمكانية حفظه. وهي أهم حصانة للثقافة الشعرية المهددة بالانقراض. وإلى جانب أنه وحدة صوتية، فهو وحدة فكرةٍ وشعور قادرة على الإسهام في الديناميكية الدرامية التي تتطلبها القصيدة القصصية. يختتم جون جيري -وهو شاعر أميركي ينتسب إلى هذا التيار- مقالة له بهذه الإشارة ذات الدلالة: «إن الجدل المدهش الذي أثارته الشكلانية الجديدة فتح حقل الشعر الأميركي على أفق لا تنتاب المخاوف فيه الشاعرَ الناشئ -كما كانت تنتابني- بأن الكتابة بالوزن والقافية ستكون موضوع سخرية في الأوساط الشعرية الجادة».