التقيت قبل عدة أعوام خلال مؤتمر في إسطنبول ببعض المهتمين بمتابعة دور المنظمات الدولية، إذ جمعتنا ورشة عمل حول إصلاح النظم الانتخابية, وأطلقنا النكات آنذاك حول المصادفة التي جمعتنا في مدينة "تقسيم" التركية للحديث حول المتغيرات في السياسة الدولية والمحلية، ومنها بالطبع "تقسيم" المناطق أو الدوائر الانتخابية كمرحلة من مراحل الإصلاح الانتخابي، بالإضافة إلى الحقوق السياسية للمرأة والفئات المهمشة في دول العالم النامي والمتقدم. وعن تقسيم الدوائر أذكر قصة سردها أحد المشاركين حول "الجريماندرية"، وهو مصطلح يطلق على التلاعب بالتقسيم الجغرافي للمناطق الانتخابية, استناداً إلى قصة حدثت في مقاطعة ماساتوشتس الأميركية عام 1812 عندما قام المختار "جيري" بصياغة الدوائر بطريقة تسمح لحزبه بالفوز، وتمنع الفدراليين من الوصول إلى المقاعد الانتخابية، فنسب التلاعب إليه "الجريماندر" أو "الجريماندرية".

Ad

وما الحد من "الجريماندرية" إلا منع محاولة العديدين في دول كثيرة صياغة النظم التفضيلية للتقسيم بصورة تسمح لأحد الأحزاب أو التكتلات بتحقيق الفوز المتكرر، وبالتالي احتكار الأغلبية الفائزة للبرلمان على حساب أقلية مهمشة؛ لذا بدأت رحلة تصميم الأنظمة البرلمانية، ووضع أسس وأطر لتصميم ضمانات لحمايتها من التلاعب بتقسيم المناطق الانتخابية.

واليوم... يبقى موضوع الدوائر مدخلاً مهماً في إصلاح النظم الانتخابية ووضع الضمانات لحمايتها من التلاعب، وتعود اليوم لتصبح العصا التي ستوضع في عجلة إصلاح النظام الانتخابي. والحد الفاصل في الانتخابات القادمة بين مؤيد ومعارض أو بالأحرى مشارك في الانتخابات ومقاطع لها.

دعونا نسترجع بعض ملامح الانتخابات الماضية لعلها تصبح عوامل مؤثرة في أي تغيير قادم للدوائر، فأولها مشاركة مراقبين دوليين، والعامل الثاني إقبال مرتفع- 61%- على الاقتراع, والثالث غياب النساء عن البرلمان، ووصول تيارات متناقضة في كل دائرة انتخابية. أي حالة غير مسبوقة من الاستقطاب بين الشخصيات المرشحة، وبالتالي اصطفاف الناخبين خلف الوجوه الجديدة في المجلس المبطل أو من لم يحالفهم الحظ في المجلس السابق.

وقد توقع متابعو الحراك السياسي عزوف الناخب هذا العام عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ولكن المفاجآت المستمرة أدت إلى الترقب والسلوك غير العادي في الاقتراع, مدفوعاً بغضب أحيانا وبقناعة أحيانا أخرى, لذا فالتعبئة السياسية في اللحظات الأخيرة لبعض الدوائر رفعت نسبة الاقتراع وأطاحت بالمستقلين، والمزاج الانتخابي مال آنذاك تجاه أصحاب المواجهة والإثارة.

وكشفت الانتخابات أيضا القدرات التنظيمية العالية التي تتميز بها التنظيمات الدينية والقبلية، وفي مرحلة التحليل شهدنا إقبالاً غير مسبوق من المحللين السياسيين على البحث عن العوامل المشتركة التي تجمع وصول التيارات الإسلامية عبر صناديق الاقتراع هنا، ومقارنتها بمصر وتونس، ومدى علاقة الربيع العربي بوصول التيارات الإسلامية عبر صناديق الاقتراع، الأمر الذي أثار مخاوف الكثيرين في دول الخليج.

ما سبق أخي القارئ لم يكن إلا ملاحظات قد تؤثر وتتأثر بالدوائر، قبل أن نضل الطريق في مرحلة المجلسين المبطل والمنحل العائد بحكم "المحكمة الدستورية"، ونقرأ الطعون المقدمة، ونترك الساحة المحلية لشعارات فردية تندد بالمقاطعة والخروج إلى ساحة الإرادة، يتبعه نقد لسلوك خارج عن الإطار المعروف... فأين أعضاء البرلمان اليوم من الإصلاح الانتخابي؟

يعتبر البعض الفترة الحالية مرحلة تصحيحية من الداخل، أي داخل الكتل والتجمعات السياسية، ويراهن على ظهور الخلافات إلى السطح بأنها علاجية، ويعتبرها البعض مرحلة بالغة في الخطورة ويخشى أن يصبح الخطاب الناقد والجارح سمة من سمات الحوار. وللحديث بقية!!