ها قد حان موسم العودة من السفر... عودة الأفواج المسافرة من العرب والمسلمين من ديار الأنوار إلى ديار الظلام.
ما أجمل رحلة الذهاب، فكأنما آلة زمن (الطائرة) تنقلك خلال ساعات معدودات من عصر القرون الوسطى إلى عصر الأنوار والحداثة، وما أتعس رحلة الإياب وما أصعبها، إذ تعود بك آلة الزمن مئات السنين إلى الوراء.نتأمل في السفر، وهو سفر عبر المكان والزمان، مشهدين يبدوان في غاية الغرابة للمسافر الآتي من الماضي، نتأمل هؤلاء الذين قطفوا ثمار معركة فكرية مضنية طاحنة بين التنويريين والظلاميين أضحت ماضياً لا تراه إلا في متاحفهم، وقد أصبحت قيم الأنوار بالنسبة إليهم أمراً بديهياً لا تشغلهم أو تقلقهم، بينما هي كل ما يشغلنا نحن الآتين من أزمنة ماضوية، فهي بالنسبة إلينا مسألة وجود وكيان ومستقبل نراهن عليه.ومشهد آخر للمسافرين العرب والمسلمين، وبعضهم الشاتمون اللاعنون لقيم الأنوار، يتوافدون من كل صوب وحدب، يجعلنا نتساءل بحيرة ونحن نجوب المكان والزمان، هؤلاء الساخطون الكارهون للأنوار القادمون من ظلمة الكهوف الباردة الرطبة، هل يدركون السر وراء هذا الجمال الذي يتكالبون عليه لينعموا بشمس الأنوار وألوانها الفاقعة وفيتاميناتها؟ إنه العقل الحر... إنه صناعة التنوير.لكن ما هو التنوير؟ سؤال طرحته إحدى جرائد برلين عام 1784، ليأتي رد فيلسوف التنوير كانط مزلزلاً مجلجلاً، ولتبقى وصيته بعد أكثر من مئتي سنة شعاراً ومبدأ للتنويريين.يقول كانط بما معناه إن التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور العقلي، والتي هو وحده المتسبب بها والمسؤول عنها، فالقصور العقلي هو عدم القدرة على استخدام العقل، وهو نقص في الشجاعة والجرأة على اتخاذ القرار دون وصاية أو توجيه.وكانت وصية كانط للإنسان: "كن جريئاً في استخدام عقلك... هذا هو شعار التنوير".يرى كانط أن الانتقال من مرحلة القصور العقلي واللارشد إلى مرحلة النضج العقلي والرشد ليس بالعملية السهلة، فالطفولة العقلية مريحة جداً، لأن هناك من يتخذ القرار نيابة عنا، ومن يفهم الكتب نيابة عنا ومن يستخدم ضميره نيابة عنا، فلماذا الجهد مادام الآخرون يتحملون أعباء التفكير واتخاذ القرار؟ فيتسبب عجز الإنسان عن استخدام عقله بمفرده بضمور القوة العقلية لأنه لم يعتد على تقوية حركتها بحرية.والتنوير، كما يقول كانط، لا يتطلب غير توفير مناخ الحرية وترسيخ معانيها من أجل تحطيم السلاسل والأغلال التي تكبل العقول حتى تستطيع القيام بالإصلاح الديني والسياسي الحقيقي.فبدون حرية لن يكون هناك تنوير يخرجنا من الظلمات الفكرية الرجعية والسلطوية، ولن يستطيع السياسي أو المفكر أو رجل الدين أن ينتقد أو يراجع أو يصحح الأخطاء أو يحرك المياه الآسنة بدون مناخ الحرية.هذا هو سر الأنوار الأوروبية التي اعتمدت على النقد وتصحيح الأخطاء والمراجعات المستمرة لأفكارها وإعادة بناء الذات.ها نحن عدنا إلى العصور الوسطى بعد حالة طويلة من "الغيبوبة" الزمانية والمكانية... لم يتغير شيء... ذات الصراع بين المشيخة السياسية والمشيخة القبلية والدينية، وبين السلطوية والرجعية... وذات التصريحات الجاهلية وذات الغث والتخلف... آخرها تصريح محمد العوضي بأن الزواج يقي من العلمانية! والحملة التي تكفر الديمقراطية وتحرم المظاهرات و"الاجتماع في مكان تختلف فيه الآراء"! وغيرها من الخطابات التي تعمل على غسل أدمغة العقول القاصرة بأن التنويريين والعلمانيين "الهراطقة والزنادقة" يريدون هدم الدين... لا داعي لزيارة المتاحف في بلاد الأنوار فلدينا متاحف حية نعيش داخلها.
أخر كلام
ها نحن عدنا إلى متاحفنا
07-09-2012