سوزان عليوان في «معطف علّق حياته عليك»...
تطلّ من نافذتها الخاصّة بجملة مزاجيّة جذّابة
قليلون هم الشعراء الذين يؤمنون بأن العنوان جزء من القصيدة، وبأنّ القصائد تبيت مساءً في عناوينها. لذلك، يندر العنوان اللافت معتمرةً إيّاه القصيدة قبّعة ذهبيّة. ولا يكفي العنوان أن يكون غريبًا أو جديدًا ليكون ناجحًا فكم من الغرابة ما زاد من الغربة بين صاحب النّصّ وقارئه.
في جديدها الشعريّ «معطف علّق حياته عليك» تطلّ الشاعرة سوزان عليوان من نافذة خاصّة تشبه وجهها وهو يعبر من ذاته إلى القصيدة.
قليلون هم الشعراء الذين يؤمنون بأن العنوان جزء من القصيدة، وبأنّ القصائد تبيت مساءً في عناوينها. لذلك، يندر العنوان اللافت معتمرةً إيّاه القصيدة قبّعة ذهبيّة. ولا يكفي العنوان أن يكون غريبًا أو جديدًا ليكون ناجحًا فكم من الغرابة ما زاد من الغربة بين صاحب النّصّ وقارئه.
في جديدها الشعريّ «معطف علّق حياته عليك» تطلّ الشاعرة سوزان عليوان من نافذة خاصّة تشبه وجهها وهو يعبر من ذاته إلى القصيدة.
تهندس سوزان عليوان في «معطف علّق حياته عليك» أثلام حقلها على طريقتها، وتصرّ على الالتزام بجملتها المتّصفة بالبرق، الرافضة للأسر بأدوات الربط، فنادرًا ما تخضع لسلطة أحرف العطف، أو أدوات التعارض والاستنتاج... إنّها جملة، عصبيّة، مزاجيّة، راقية، جذّابة، إلى حدّ أنّها تستطيع القفز من النّصّ إلى شرفة قارئها وحيدة، تاركة أخوات لها، لا يتعطّلن، وهُنّ تحت نصيبهنّ كما يقول اللبنانيّون...أمّا عن المعطف المعلِّق حياته على مرتديه فهو، إذا جاز التحليل، ابن الإسقاط الوجودي، وبدل أن يُعلَّق المعطف في المكان المخصّص له، صار هو صاحب الحياة يعلّقها على من يطمع بدفئه أو بأنسه أو بأسره... ما عند عليوان تخلّصت منه، وأسقطته على معطفها، أعارته الحياة وتحوّلت هي حمّالة معاطف، هي التي تحيا في معطف ذي أكثر من دلالة، وقد تكون دلالة العطف أميرة الدلالات.
جديد عليوان مدينة لغويّة عاشقة، فالحبّ سيّدها والحاكم بأمره، وللعاطفة حضور تضيق به صدور الكلمات، كذلك للخيال الطاعن في الانتساب إلى الرمزيّة التي توحي بالقرب، لما في النصّ من مؤشّرات واقعيّة، إلاّ أنّها رمزيّة عميقة ترتفع فيها نسبة الضباب. في قصيدة الديوان الأولى Montmartre تقول سوزان: «... غيم وشجر صنوبر/ وصغار بالأبيض والأسود/ فوق ظلّينا يركضون»... فالغيم وشجر الصنوبر مشهدان لا يحتاجان إلى ما تبوح به الذاكرة من البضاعة التي أهدتها إليها العين، لكنّ لصغار الأبيض والأسود حكاية أخرى، فقد يكونون لا يزالون أجنّة في خاطر عليوان، التي تبوح بشهيّتها إلى الأمومة، إلى أطفال يركضون على ظلَّي أمّهم وأبيهم. حتّى الظلّ، في هذا السياق، يكتسب معنى الوجود، فالشاعرة هي ظلّها، ربّما لأنّه وجودها الذي تستطيع اصطياده بشبكة العين... وتنجح عليوان حين تتنازل لصالح الوضوح غير المعطِّل جموح الخيال، ويبقى لتعبيرها سطوته الشعريّة: «بغريزة الغرقى/ تتشابك يدانا/ برغبة الأزرق/ في أن يبقى سماء». وليتها تعتمد النصّ الأقصر، أو تراعي مسألة نموّ النصّ وترابطه، فكثيرًا ما يشعر القارئ أنّ النصّ انتهى، ويجد نفسه أمام استئناف، عمليًّا، يشعر نفسه أمام نصّ آخر لا ينقصه سوى العنوان. وقد يكون لهذا التشظّي النصّيّ المقصود ما يبرّره عند من قصده، لأنّه يتكرّر من ديوان إلى آخر، وعليوان تعرف هذا الأمر جيّدًا، ويثبت الإخراج الطباعيّ معرفتها، فكلّ ما هو مفصول طباعيًّا بالأبيض عن ما بعده وما قبله يعني أنّه على شيء من الاستقلاليّة.مشهد واقعي لافت أنّ عليوان لا تلوذ بخيالها أوّلاً عند كتابة القصيدة، فهي تستعين بعينيها لترسم المشهد الواقعي، ثمّ تمدّه بما يحرّره من واقعيّته، ويشدّ به نحو ضفّة القصيدة، كما في «تشرين الثالث»، وتكفي هذه الكلمات لتؤسّس حقيقة المشهد: «زهرة مطرّزة على كمّ قميصي، عابرون، مظلاّت، الرذاذ، الشارع، كراسٍ، نادل، سقف المطعم، نصف شمعة، آنية لوردة، كأس وسكّين، صحنان، منديلان، شرشف، طاولتنا...» ولا شكّ أنّ الشاعرة لا يخشى عليها كيف تجعل لكلّ كلمة من الكلمات المذكورة جناحين، وكيف تصل بخفّة إلى الصورة الشعريّة وكأنّها بعض من الرذاذ المتساقط أو في قعر الكأس. أو تحت الصحن، أو هي تتدلّى كالثريّة من سقف المطعم... ويحلو للشاعرة أحيانًا أن تستغرق في جعل الشيء الواقعيّ يقول ما ليس في الحسبان: «طاولتنا حسرة حطّابين/ أصداء فؤوس ومطارق»، فالطاولة الأنيقة الحاملة على ظهرها أكثر من جمال أخذتها سوزان إلى الغابة، ردّتها إلى أمّها، إلى حطّاب لا «تمون» دمعته على فأسه، وإلى نجّار يومئ إلى مطرقته أن دعي هذه الخشبة تنسى أنّ أصلها شجرة...وإذا كانت الأشياء تحترف إيلام الشاعرة، فإنّ المكان معصيتها أيضًا، فهي تمرّ بالأمكنة وتطارد تفاصيلها الصّغيرة بعينَي صيّاد عتيق، غير أنّها لا تشعر بالانتماء، بالمعنى الكلاسيكي، وكأنّ لها في الرحيل سكنًا: «... وحيثما حمامة تحطّ وطني/ وأينما يطير حمام طريقي». والزمان هو بعض من مكان تسكنه عليوان. إذ إنّ حاضرها ليس أكثر من وقت لكتابة قصيدة، أو لحصاد حقل ألم، ليبقى الماضي يمدّ الذاكرة بخصوبتها، على رغم أنّه يهرب: «دهاليز الماضي هاربة»، ولتبقى الطفولة أشهى ما يجود به العمر: «... إلى طرق من طفولتي/ وأرجوحة أزل»...والحزن هو ظلّ الحبّ في مجموعة عليوان، إذ لا طريق يوصل إلى نجمة لا تتعب من فضّتها، ولا إبحار يسخو عليه البحر بشاطئ للرّسو: «كتف مالحة/ لكثرة ما اتّكأ/ على ضحكتي غرباء». فمن حمل الملح إلى كتف الشاعرة؟ ومن هم الغرباء الذين حاولوا الدخول إلى ضحكتها وهي ليست لهم؟ وكم تبدو هذه الضحكة مُغتصَبَة، وذليلة، كأنّها الأنثى التي تنتظر رجلاً يشبه اشتياقها إليه وقد تسلّل إليها من ظلال انتظارها قبيلة رجال لا يليق واحد منهم بانتظارها المقدّس.وفي الانتقال من نص إلى آخر يشعر القارئ أنّ المكان والزمان والحبّ والحزن... تتواطأ كلّها على الشاعرة وترمي بها في ساحة غربة متعدّدة: «... أما للغربة صيغة جمع؟» وليس لعليوان سوى اللغة فتتفرّغ لانتقاء مفردات تصلح للإقامة في التشظّي، وللشدّ على يد خيالها فيفتح لها صناديق التشبيه والاستعارة وتمضي لتصطاد برأس قلمها ما له جناح خصب في سماء المجاز، ويعرف كيف يعيش مع الواقعيّ في بياض الورقة نفسها.واللغة لا تخذل سوزان عليوان، فتمنحها سلاماً أزرق يرتاح في حضن قصيدة ويأخذ كثيرًا من المساحة المخصَّصة للموت في العاصفة الصفراء: «على يقين/ بأنّ بئرًا من ضوء/ من أزرق قصيدة/ في بقعة ما/ من هذه العاصفة الصفراء/ تختبئ».