الفلاح المغضوب عليه!
في واحد من التفسيرات الكثيرة التي سيقت لتبرير الهجوم الكبير الذي تزامن مع عرض مسلسل «الزوجة الثانية»، الذي أخرجه للشاشة الصغيرة المتمرد خيري بشارة، عن قصة للكاتب الكبير أحمد رشدي صالح، سبق أن أخرجها للشاشة الكبيرة المبدع الكبير صلاح أبو سيف، ويضع أيدينا على السر وراء التربص الغريب بالمسلسل منذ بث أولى حلقاته، قيل إن الجمهور لا يُقبل على الأعمال التي تدور أحداثها في الريف، ولا يرحب كثيراً بالشخصيات التي ترتدي الجلابيب!تفسير يعوزه المنطق لكن تؤكده السوابق التي تُشير إلى أن الأفلام التي جرت أحداثها في القرية لم تلق بالفعل حظها من النجاح، لكن لأسباب لا تخص الجمهور، وإنما الأسلوب الذي تعامل به الكتاب والمخرجون والمنتجون مع الريف المصري وأهله؛ إذ اتسم التعامل غالباً بتعال وعجرفة وجهل بمقتضيات الواقع، وعجز عن الإلمام بطبائع وعادات وتقاليد الري؛ فالصعيدي جاهل وعصبي بينما الريفي ساذج وأبله، ومن ثم جاءت النتيجة كارثية بما حملته من إساءة بالغة وسخرية بلغت حد الازدراء!
تناقلت الروايات أن المخرج محمد كريم كان يلجأ إلى تجميل الواقع في الريف، من خلال اختيار زوايا تصوير تُبرز جمالياته، وانتقاء الفلاحين المهندمين، بل كان يقوم، إذا اقتضى الأمر، بغسل وتنظيف الماشية قبل ظهورها على الشاشة. ومن ثم طاردته الاتهامات بتزييف واقع القرية المصرية، بينما الحقيقة أن ظروف تلك الحقبة التاريخية كانت قاسية وصارمة للغاية؛ فالرقابة تتربص بالمبدعين وتضع مجموعة من القيود التي تكبل حريتهم، وتحول بينهم وتصوير الواقع بشكله الحقيقي، والنخبة الحاكمة تُكرس الطبقية، ومن ثم لا تشجع أي حديث عن القهر والاستبداد، وتسعى إلى الإيحاء بأن العلاقة الودية بين «الباشا» و»الفلاح» طبيعية ومنطقية! في فترة لاحقة، تحديداً حقبة الستينيات، اختلفت الحال، والتناول، فقدم المخرج صلاح أبو سيف «الزوجة الثانية» (1967) وأنجز المخرج حسين كمال «البوسطجي» (1968) وأتبعه بفيلم «شيء من الخوف» (1969). ومع عام 1970 قدم يوسف شاهين فيلمه الرائع «الأرض»، الذي كان بمثابة نقلة نوعية في تاريخ الأفلام المصرية التي تجري أحداثها في الريف. ومن الحديث عن الاستبداد في «الزوجة الثانية»، وفضح التقاليد الصارمة في «البوسطجي» مروراً بالتنديد بالدكتاتورية والقهر في «شيء من الخوف» وصولاً إلى التحريض على الثورة في «الأرض»، بدا واضحاً أن الثورة المصرية التي اندلعت في 23 يوليو 1952 تركت آثارها وتداعياتها، وتوجهاتها، على السينما المصرية، وخلصتها من ترددها وإحجامها عن الاقتراب من واقع الفلاح في الريف المصري، وشجعتها على التعامل معه بشكل أكثر جدية ومصداقية؛ حيث جرى التركيز على مساوئ الإقطاع، ومحاربة الفقر والجهل والمرض.غير أن الحال لم تستمر كثيراً؛ فمع مرحلة الثمانينيات، ومن قبلها نهاية السبعينيات، تراجع اقتراب السينما المصرية من القرية/ الريف، وخرج الفلاح من دائرة الاهتمام والخطاب وعادت قضايا الريف المصري إلى الخلفية، ولم تعد محل اعتبار السينمائيين، والتوجه الحكومي على حد سواء!في كل الأحوال، وباستثناء تجارب معدودة سبق الإشارة إليها، فشلت السينما المصرية في تقديم صورة حقيقية للريف بتفرد شخوصه، وزخم عالمه، وخصوصية مكانه، وتحول إلى صورة هزلية وكاريكاتورية، لبشر لا يتمتعون بأي حقوق مدنية ـ اجتماعية واقتصادية وسياسية ـ أو خدمات صحية وتعليمية، وكأنهم يعيشون على الهامش في مكان لا وجود له على الخارطة، أو مغضوب عليهم لذنب لم يرتكبوه، وتحولت العلاقة بين الجمهور وهذه النوعية ذات الخصوصية إلى حالة من الانفصال، ومن ثم سادت قناعة بأنها لا تحظى بالقبول الجماهيري، ولا تتوافق والمزاج العام، بينما الحقيقة أن تراكم التجارب السينمائية التي دارت أحداثها في الريف، وعانت فشلاً كبيراً في الدقة والواقعية والمصداقية، نتيجة اللامبالاة، وعدم مراعاة التفاصيل المهمة، كاللهجة (اللكنة) التي تجاهل السينمائيون اختلافها من قرية إلى أخرى ومن فلاحي الشمال إلى صعايدة الجنوب، فضلاً عن زيف الديكور والملابس والماكياج، الذي لا يخرج في الغالب عن شارب مستعار يثير الضحك، هي التي تسببت في الانفصال الذي وصل إلى حد القطيعة وربما الكراهية لهذا الريف المغضوب عليه!تفسير قد يلقى هوى لدى طاقم عمل مسلسل «الزوجة الثانية»، الذي أضير كثيراً جراء الهجوم اليومي الذي تعرض له العمل، وربما يُخفف الوقع السلبي لانصراف شريحة من الجمهور عن متابعة حلقاته مُقارنة بأعمال درامية أخرى حظيت بالتجاوب، على رغم كونها أقل جودة وحرفية. لكن لا ينبغي أن يُصبح التفسير سبباً في التغاضي عن أخطاء «الزوجة الثانية»!