فارس يواكيم ينصف القصيدة من الأغنية في محكمة التاريخ

نشر في 31-01-2013 | 00:01
آخر تحديث 31-01-2013 | 00:01
No Image Caption
لم تكن القصيدة العربيّة يومًا بعيدة من الغناء، فهي ذهب الحناجر الموهوبة، وغير الموهوبة، منذ أن كان الشعر العربيّ. غير أنّ ما وصلنا عنها مغنّاة قليل، فالعربيّ غنّى في خيمته، زمن الجاهليّة، وفي القصيدة التي غنّاها من الموسيقى ما يكفي ليسهل تلحينها وتنغيمها على العامّة، بغضّ النظر عن موهبتهم في اللحن والغناء.
في جديده «حكايات الأغاني» يروي الباحث الأديب فارس يواكيم رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية.
يوضح الأديب فارس يواكيم في مقدّمة كتابه «حكايات الأغاني» أنّه لم يهتمّ بالقصيدة التي كُتبت للغناء، إنّما تابع سيرة القصائد التي اشتهتها الحناجر، في حين أنّ شعراءها لم يخطر لهم يومًا أنّها ستُقرأ بالآذان فلا يُحرَم منها جاهل قراءة، أو فاقد نظر، أو عاجز عن شراء ديوان: «الأغاني التي يروي هذا الكتاب حكاياتها، قصائد ولدت والأغنية لم تصبح جنينًا بعد». وقد يكون يواكيم يقصد الأغنية بعد أن توصّلت التكنولوجيا إلى تقديم وسائل وتقنيات للتسجيل ولكلّ ما يخدم حاجات الأغنية لتصير إرثًا مكتملاً ومحفوظًا، لأنّ القصيدة عند العرب هي أغنية أيضًا بشهادة تاريخ العرب، لا سيّما تاريخ أدبهم، وعلى سبيل المثال إنّ عمر بن أبي ربيعة، في العصر الأمويّ، شاعر القصيدة المغنّاة بلا منازع... ويواكيم ليس بجاهل أو متجاهل علاقة القصيدة بالغناء عند العرب. «وعلى امتداد العصور كانت القصائد دعامة الغناء. وبعض القصائد كان يغنّى باللحن ذاته من جيل إلى جيل، ثمّ تبقى الكلمات ويتغيّر اللحن».

وليست قيمة جديد يواكيم توثيقيّة وتأريخيّة فحسب، لأنّه تكبّد عناء، لا يطلبه إلاّ الباحثون الذين يرتضون العناء الكبير خدمة للفكر والجمال والإنسان، فرصد الطريق كلّه من قلم الشاعر إلى حنجرة المطرب، مشيرًا إلى التعديلات التي طرأت على جسد القصيدة وكم من تعديل يطرأ على الجسد ويطاول بتأثيره الروح. أمّا القصيدة التي وصلت بسلام من صمت القلم إلى ألق الصوت فاكتفى يواكيم بأن يشير إليها: «الأغاني... حذفت منها أبيات أو أضيفت إليها أبيات أو جرى تعديل في ترتيب الأبيات. استُبدلت بكلمات كلمات»...

ولا شك في أنّ أسباب التعديل تختلف ولا يمكن أن تُختصر بالسعي إلى الكمال في جماليّة النصّ. ولا يفوت الباحث أن يعلن تجنّبه القصائد العاميّة المغنّاة لأنّ معظمها، بحسب رأيه، كتُب للغناء، كما أنّه لم يأتِ على ذكر الشعراء الذي كتبوا القصيدة للغناء مثل عاصي الرحباني... تحت عنوان «من التراث» أدرج يواكيم أسماء الشعراء القدامى الذين غُنِّي من شعرهم، مثل المتنبّي وقد غنّى له المطرب العراقي ناظم الغزالي «يا أعدل الناس» وأبي العلاء المعرّي وقد غنّت له المطربة المصريّة ليلى مراد «غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي»... وبلغ عدد الشعراء الذين قدّم الباحث نبذة عن حياتهم وعالج ما يريد في قصائدهم المغنّاة ستّة وثلاثين شاعرًا أوّلهم أبو فراس الحمداني وآخرهم عزّ الدين المناصرة.

أم كلثوم

تتعذّر الإحاطة، بمقالة قصيرة، بالقصائد كافة التي كان لها حظّ أن تُغنّى وبمناقشة التعديلات كافة التي خضعت لها. غير أنّ من المفيد مناقشة بعض ما يمكن مناقشته.

اختارت أم كلثوم قصيدة «أراك عصيّ الدمع» لأبي فراس، وغنّتها. وأسقطت «بلى» وغنّت «نعم» ليصير صدر البيت: «نعم، أنا مشتاق وعندي لوعة»، على رغم أنّ «بلى» ألطف وأنسب غناءً. والتعديل الثاني اللافت، هو حين استبدل الشاعر أحمد رامي، صديق أم كلثوم ومستشارها، كلمة «آنسة» بـ{فاتنة» على رغم أنّ الكلمة المستبدَلة لا تحتاج إلى من يثبت عربيّتها وشاعريّتها وشتان ما بين «آنسة» و»فاتنة». ويجب الاعتراف بأنّ هذا الشكل من التعديل مسيء إلى الشاعر وغير جائز إلاّ إذا كان حيًّا يرزق وهزّ رأسه موافِقًا...

ومحاولة الاغتيال الشعريّة التي تعرّض لها أبو فراس لم ينج منها الشاعر عمر الخيّام، إذ طُرِدت الخمر من رباعيّته لتحصل على حقّ الانتساب إلى حنجرة أمّ كلثوم. يقول الخيّام:... «هبّوا املأوا كأس الطلى قبل أن / تفعم كأس العمر كفّ القدَر». فتدخّل الشاعر أحمد رامي واستبدل «الطلى» بـ»المنى»، و»تفعم» بـ»تملأ»... ومثل هذا التدخّل تدخّلات كثيرة وهي لأسباب دينيّة واجتماعيّة وفكريّة، ما يعني أنّ الخيّام لا يُغنّى كما هو إنّما كما يشاءه المغنّي، وعليه فإنّنا أمام خيّام آخر والغريب في الأمر أنّ شاعرًا سمح لنفسه بتغيير هويّة شاعر فهل هو يرضى بأن يلقى المصير نفسه؟!

وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض التصرّف من أهل اللحن والغناء يأتي مُرْضيًا، ومثالاً على ذلك تصرّف الأخوين رحباني في نصّ جبرانيّ وصل إلى حدّ الاختصار الذي لا يسيء إلى النّصّ الأصليّ، لا سيّما إلى روحيّته، فبقي جبران في نصّه الرحبانيّ المغنّى بملامحه المعروفة فكريًّا وأدبيًّا. والمحبّة بقيت محبّة والزواج زواجًا، بخلاف ما حصل مع الخيّام الذي صار رجلاً آخر، على مستوى الفكر، وهو على بساط صوت أمّ كلثوم...

نزار قباني

أمّا عن الشعراء الذين غنِّيت قصائدهم وهم على قيد الحياة والقافية فالأمر مختلف، لأنّهم إمّا أن يغيّروا ويعدّلوا بأقلامهم وإمّا أن يرضوا بما يُطرح ويُقترح عليهم. وخير مثال لهؤلاء الشاعر نزار قبّاني وقد كان الأخوان رحباني هما من دعاه أوّلاً إلى مملكة الصوت والنغم الخالدة، يوم لحّنا له قصيدة «وشاية» التي غنّتها فيروز سنة 1956. ولم تخضع وشاية نزار إلاّ لتعديل واحد أسقط كلمة «زُرْق» وأحلّ محلّها كلمة «بِيض» في المطلع: «أأنت الذي يا حبيبي... نقلْتَ لبِيض العصافير أخبارَنا». وممّا لا شكّ فيه أنّ الأخوين رحباني وقبّاني لم تكن بينهم مشكلة في الألوان... ويُعتبَر نزار من الشعراء الذين يهمّهم جدًّا أن تُغَنّى قصائدهم، وقد عدّل بقلمه قصائد له إلى حدّ أنّه زاد أو حذف لمصلحة الغناء، وها هو يزيد بيتًا على قصيدة له، غنّتها أصالة: «والأعين الخضراء والسوداء» وهذا البيت لم يكن موجودًا في قصيدة الديوان...

وفي سياق الحديث عن التعديل في القصائد بهدف الغناء، يبدو الأمر مقبولاً حين يعدّل صاحب النصّ شخصيًّا أو يرضى بتعديل الآخرين، لأنّه هو أبو قصيدته الشرعيّ وحرّ في أن يئدها أو أن يربّيها ويزوّجها ابن الفلاّح أو ابن الأمير. غير أنّ تصرّف الآخرين بالنصّ لا يبدو مقبولاً بأي شكل من الأشكال عندما يتعرّض الشاعر للتعديل من خلال تعديل نصّه، فيصير هو إنسانًا آخر ويصير نصّه نصًّا آخر.

بقلم يُشهد لحرفيّته ونفسه الطويل في الغوص على لؤلؤ الفكر والجمال، كتب فارس يواكيم «حكايات الأغاني»، وقدّم إلى القارئ العربي كتابًا يقتنى لما فيه من ثقافة جامعة يتعذّر على إنسان فرد الحصول عليها. ومن يتتبّع نشاط يواكيم الكتابيّ يعرف أنّه يرمي شبكته في محبرة عميقة ولا يرفعها قبل أن تمتلئ من سمك الدهشة الغريب.

back to top