مكابرة ضد الزمن
استيقظ روبرت لويس ستيفنسون من نومه بشعور غامر من النشاط والطاقة المتفجرة، على غير حالته العادية، وهو الذي كان يعاني دائما الخمول والإعياء الملازمين لجسده الضعيف، وأمسك ستيفنسون بالقلم والأوراق، وأخذ يكتب عشرات ومئات الصفحات دون تعب أو كلل، وحين انتهى قدّم مسودة رواية "الحالة الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد" لزوجته فامتعضت منها، عندها ألقى الكاتب بالمسودة في نار المدفأة، وبدأ يعيد كتابة الرواية من جديد وانتهى من رائعته في ثلاثة أيام! ما سر تلك القوة الملهمة التي هبطت على الروائي ستيفنسون بعد حلم ربما كان كابوساً ترجمه الكاتب إلى عمل فني أصبح منذ عام 1886 نموذجاً ومثالاً حياً عند علماء النفس في سبر أغوار مرض ازدواج الشخصية النفسي!في كتاب "تحولات منتصف العمر في الأدب والأفلام" (لم يترجم) يستعرض الباحث ستيفن ووكر حالات التغيرات التي تحدث للبشر عند منتصف العمر بمنظار العالمين النفسيين كارل يونغ وإريك أريكسون، فكارل يونغ تلميذ فرويد بداية، ثم خصمه في ما بعد، يرى أن الإنسان في مرحلة منتصف العمر يمر عادة بلحظات توهج روحي، تلهمه وتغير من شخصيته (هذا ما حدث مع كاتب د. جيكل ومستر هايد)، في تلك المرحلة يبدأ الفرد يرى الأمور بمنظار روحي متسام للبشرية والنفس الإنسانية، فهو قد تخلص من نزق مرحلة الشباب والتمحور حول الذات التي تصاحبها عادة، وقد يشرع ذلك الشاب وهو في طريقه إلى الشيخوخة بعشق جديد وولادة جديدة تهز في وجدانه روح الشباب وجنوحها وعنفوانها الإجرامي، أوليس جنون وفوران شخصية "مستر هايد" هو الوجه الآخر المخفي لركود وتؤدة الدكتور جيكل؟! وألم يكن الروائي ستيفنسون بكتابة الرواية بعد حلمه كان يترجم ذاته وروحه بعد أن بلغ منتصف العمر؟!
ويمضي "ووكر" في عرض الأعمال الأدبية والفنية الكبرى في التاريخ، وكيف كان أبطالها يولدون من جديد في منتصف أعمارهم "بتجديد" يقرع أجراس مرحلة الشيخوخة والأفول... هنا يذكرنا الباحث بعبارة يونج الشهيرة بأننا لا نستطيع أن نحيا فترة ما بعد الظهيرة بعقل فترة الصباح. في مسرح سوفوكليس، نرى أوديب الشاب المغامر الذي قتل الوحش سفينكس عند أبواب طيبة، يدخل منتصراً ليقتل الملك ويتزوج امرأته وينجب منها، ليعرف في ما بعد أنه قتل أباه وأنه تزوج أمه وخلف منها دون أن يدري… فيفقأ عينيه ويهيم كالمجنون في المدينة، أوديب الشاب وصل إلى مرحلة منتصف العمر فيداهمه الأسى والحزن على صنيعة قدره البائس وينهش من روحه ذلك الضمير البائس (حكمة الشيخوخة) وتلك مرحلة عمر تعدت فورة الشباب كي تدق أجراس النهاية.الأمر لا يختلف، في "أوديسة" هوميروس وحكايات بطلها "أوديسوس"... فهناك غيوم منتصف العمر حين تغطي ألوانها الداكنة شمس الشباب ويلج اليأس الحكيم في عقل الإنسان.أما العالم النفسي الذي قسم الحياة وأطوارها المختلفة إريك اريكسون (عالم نفس من غير شهادة طبية) فهو يرى أنه ليس بالضرورة أن تتوهج الروح لفترات في مرحلة منتصف العمر وبداية الشيخوخة، فهناك من البشر من يرفض التأقلم مع واقع الحال، ويرفض مكابرة سنة التغيير والتبديل، عند هؤلاء تنطوي الروح على ذاتها، ويصيب التحجر والجمود أصحابها، وكأنني أقرأ هنا رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غري" فالصورة تشيخ وتهرم، أما صاحبها دوريان فيظل على شبابه وجماله، حتى اللحظات الأخيرة من عمره يدرك الحقيقة المقلوبة، فروحه هي التي كانت تشيخ وتذوي، بينما الصورة كجماد هي على حالها كانعكاس لجمال الشباب في زمن مضى.هل كان دوريان وحيدا في ذلك القرن (التاسع عشر) أم مازالت نماذجه تحكم عالمنا العربي وتضج شوارعنا ومؤسساتنا بصور دوريان غري العربي الذي يرفض التغيير والتبديل وسنن الكون؟... لنفكر قليلاً.