كان يوم الباستيل، وهو عيد وطني فرنسي، مجيداً هذا العام، فقد اتسم الاستعراض العسكري، الذي هيمن عليه الاحتفال "بالنصر" في مالي والمساهمة المشتركة من القوات الإفريقية وقوات الأمم المتحدة، بالكمال الفاتن الذي يميز فن الباليه، ولو بعضلات مفتولة.

Ad

وكان الحفل الموسيقي الكلاسيكي الذي سبق الألعاب النارية الجميلة التي انتهى بها اليوم أقرب إلى النسخة الفرنسية من الحفلات الراقصة في لندن، حيث مزج بين المقطوعات الكلاسيكية الخفيفة والأغاني الشعبية. وغمر برج إيفل الأمسية بسحره، وإذا كان أي شخص لديه أي شكوك متبقية، فأنا أؤكد له أن باريس لا تزال عاصمة العالم- أو هكذا بدت لليلة.

فالآن أصبحت المشاعر السوداوية التي استولت على فرنسا قبل سنوات عديدة في طي النسيان، وبدا الاحتفال بمجد الماضي، الذي امتزج بالأغاني الشعبية الإنكليزية من الحاضر، وكأنه يشير إلى تجدد الثقة الوطنية، ولكن ماذا كان المغزى من هذه اللحظة من الجمال والرشاقة على وجه التحديد؟ هل كانت محض نتاج لوهم جماعي، أم كانت لحظة عاطفية شجعتها السلطات، إن لم تكن هي التي أبدaعتها، من أجل استعادة مستوى معين من الثقة بالنفس بين المواطنين الفرنسيين المكتئبين؟

حتى لو ظلت المشاعر الإيجابية عابرة فحسب (كما تبدو الحال في الأرجح)، فإنها كانت حقيقية وملموسة، فقد أبدى الفرنسيون مزاجاً احتفالياً واضحاً. بطبيعة الحال، لعل الأمر كان راجعاً ببساطة إلى الأحوال الجوية المواتية؛ فقد حل علينا أخيراً صيف بديع بعد ربيع بائس. ولكن لعل تلك اللحظة الجميلة كانت أيضاً واحدة من نقاط التحول الطبيعية، قرار جماعي وعفوي بأن نقول جميعا: "اكتفينا من الاكتئاب، دعونا ننظر إلى المستقبل". ربما لم نعد نحن الفرنسيين كما تعودنا في الماضي، وهذا هو ما بدا الاحتفال وكأنه ينبئنا به، ولكننا لا نزال أكبر كثيراً مما قد يتصور الناس. فنحن لدينا ماض ثوري عظيم لا يزال يصدر إلى البشر جميعاً قيماً عالمية- الحرية والمساواة والإخاء- ولدينا جيش لا يزال قادراً على إحداث الفارق في العالم، كما أثبت في مالي.

بوسع المرء أن يستخلص درسين من هذا الشكل من أشكال الهروب الجماعي من الواقع: الأول أنه برغم الطبقات العديدة من الاكتئاب وانعدام الثقة في فرنسا، فهناك إمكانية لانطلاقة جماعية جديدة. وهذا يتطلب بطبيعة الحال وجود نخبة سياسية أقل ولعاً بالسخرية والانتقاد وأكثر قدرة على تجاوز طموحاتها التافهة وانقساماتها من أجل مصلحة البلاد.

وكان الدرس الثاني أكثر وضوحاً، فهو ينبئنا بأن تغيير الواقع لا يتم بالمظاهر العامة البسيطة. إن فرنسا ليست روما الإمبراطورية، حيث كانت وسائل الاسترضاء السطحية تحدث فارقاً جوهرياً، بل إنها ديمقراطية واهنة وغارقة في أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة حتى إنها توشك أن تتحول إلى أزمة هوية. وقد ظهر البرهان بفضل حدث تقليدي ثالث شهده يوم الباستيل، بين استعراض الصباح العسكري وموسيقى المساء وألعابه النارية: خطاب الرئيس فرانسوا أولاند إلى الأمة، والذي اتخذ هيئة مقابلة مع اثنين من الصحافيين البارزين، والرئيس أيضاً كان يمر بحالة مزاجية مطمئنة. وفقاً لأولاند، فإن التحسن الاقتصادي قد بدأ للتو، وتحقيق الآمال بات قاب قوسين أو أدنى، وقد تغيرت لهجته ورسالته، فهو لم يعد "الرجل العادي" الذي رأيناه في حملته الانتخابية وولايته حتى الآن؛ بل حاول بدلاً من ذلك أن يقدم نفسه، كما تعود سلفه نيكولا ساركوزي، بوصفه بطلاً خارقاً. بطبيعة الحال، وبالنظر إلى شخصيته وانخفاض مستويات الدعم الشعبي التي يتمتع بها الآن، فإن خطابه كان بمنزلة الحدث الأقل إقناعاً طيلة اليوم. فمن كان يجزم عن يقين بأن التحسن الاقتصادي الذي أعلنه أولاند حقيقي وليس مجرد طموح؟ وبعيداً عن رسالته القائمة على التمني، فإن ردود الفعل الشعبية إزاء محدثهم كانت مزيجاً من عدم التصديق واللامبالاة.

عندما شاهدت سلوك الأصدقاء، وكل الفرنسيين، وهم ينصتون معي إلى أولاند، تذكرت لحظة أخرى. كانت تلك اللحظة في الحادي والثلاثين من ديسمبر من عام 1989، وكنت آنذاك في الاتحاد السوفياتي، وقد وجدت نفسي في أحد مطاعم مدينة سوزدال القديمة، أستمع إلى تمنيات الرئيس ميخائيل غورباتشيف الطيبة بالعام الجديد.

والحق أن كلماته حركت مشاعري: فهذا الذي يتحدث هو الرجل الذي جسد سياسة الانفتاح والمكاشفة، الذي سمح بتحرر أغلب أوروبا الشرقية والوسطى سلمياً. ولكنني كنت وحدي في الالتفات إليه والإصغاء لكلماته. فلم يبد زبائن المطعم، كما يفعل أصدقائي الفرنسيون الآن، أي قدر من الاهتمام به، بل إن رئيسهم تحول بالنسبة لهم إلى ضوضاء في الخلفية.

تُرى هل تحول أولاند، بهذا المعنى، إلى غورباتشيف الفرنسي؟ إنه في نظر اليسار والخُضر أقرب إلى كونه خائناً، فقد اختاره هؤلاء الناخبون قبل عام ليس لأنه لم يكن ساركوزي، بل لأنه كان يجسد قيم اليسار الحقيقي، حتى لو بدا اعتداله الوسطي وكأنه نذير شؤم. كما أصيب الناخبون من الوسط أو حتى يمين الوسط بالإحباط وخيبة الرجاء، بسبب افتقار رئيسهم إلى الكاريزما، إن لم يكن بسبب عجزه الكامل.

بعد عام من أولاند، تشهد فرنسا ثورة سياسية عميقة، فعلى مدى نصف قرن من عمر الجمهورية الخامسة، كان نظام الثنائية الحزبية الذي يتألف من اليسار واليمين هو السائد تقليدياً، ولكن الآن أصبحت فرنسا دولة خاضعة لهيمنة "نظام ثلاثي" يتألف من قوى متكافئة تقريباً: اليسار، واليمين، واليمين المتطرف.

إذا كانت فرنسا راغبة في الاستفادة من المشاعر الإيجابية التي ولدها يوم الباستيل، فإنها تحتاج إلى نخبة أكثر حساً بالمسؤولية، وعلى استعداد للتوحد في الكفاح ضد البطالة وأسبابها (الافتقار إلى القدرة التنافسية وتصلب سوق العمل). وما كشف عنه يوم الباستيل، حتى لو كان ذلك لفترة وجيزة وبشكل سطحي، هو أن إمكانية توحيد فرنسا قائمة. ولكن تحقيق غاية التوحد يتطلب ما هو أكثر من الوعود الضحلة الجوفاء.

* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، أستاذ بمعهد الدراسات السياسية في باريس، وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، وأستاذ زائر لدى كينجز كوليدج في لندن.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»