عدد القتلى والجرحى في العراق منذ مطلع رمضان المبارك بلغ أكثر من 1800، بفعل هجمات انتحارية وتفجيرات اقتصرت معظمها على المساجد والحسينيات، إلى جانب حملة اغتيالات في سورية، مصر، ليبيا، تونس... اليد التي اقترفت هذه المذابح لابد ترى نفسها يداً مباركة، تستمد بركتها من بركة رمضان ذاته، وهي تقول ذلك ببلاغة عالية، لأن القتيل لديهم إما أن يكون مذنباً فإلى جهنم، أو بريئاً فإلى جنة الخلد، حتى الطفل لأنه سيلتحق بالآخرة ملاكاً.

Ad

أنا لا أشاهد التلفزيون إلا نادراً. منذ مطلع رمضان شُغلتُ به، لا رغبة في متابعة مسلسلاته الرمضانية، بل اضطراراً لمتابعة مذابحه الرمضانية. ومذابحه مذهلة، لأنها لم تحدث باسم التاريخ الذي لا يعرف رحمة، بل باسم دين الرحمة وباسم رمضان الرحمة، وبإعلان صريح، إسلاميو التكفير لا يرون في كل المليار والنصف من مسلمي العالم مسلماً واحداً، يتطابق مع الصورة الجهمة في مخيلتهم. وأشاركهم أنا الآخر في ذلك، فوجوههم التي تُطل علينا بين حين وآخر من صفحات وشاشات الاعلام والنشر لا تقبل التطابق العفوي مع وجه ابن آدم، ومع كل وجه إنساني ألفته. فهي، كما تعترف، منذورة للتطابق مع وجه منتَظَر في المستقبل، أو وجه منتَظرٍ في الغيب. ولكن إسلاميي التكفير، الذين لا يكفون عن إنكار ابن آدم، لا يرون التناقض الذي بين دعواهم وبين هذا الإنكار. ولا يُكلفون أنفسهم حتى بالتساؤل عن معنى انشغالهم بهذا الكائن الزائل، حد الولوغ بدمه، وقد خلقه الله على ما هو عليه من إسلام سمح، عذب يحيطه بأركان لا ثقل فيها، ولا عنت.

الآية الكريمة التي تقول: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما.

 "وحديث الرسول الذي يقول: "لَزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" لا تعني شروى نقير لهذا التكفيري النافر باتجاه الهاوية. لأن القرآن، والله ورسوله أصبحوا داخل دوامة "قداسة العقيدة الحزبية" في كيانه كيانات غائمة. وبالتالي فهو لم يعد يقتل باسم القرآن والله ورسوله، الأمر الذي سيشكل تعارضاً لو حدث، بل باسم الفكرة الحزبية المقدسة. الفكرة الحزبية التي استلمت هالة القداسة من القرآن والله ورسوله كاملة، وجيرتها لصالحها. إنه يسعى لاستلام السلطة ليشيع عدالة الإسلام. ولأن عدالة الإسلام لديه فكرة كامنة في المستقبل، والسعي لاستلام السلطة ينفرد وحده بالحاضر، فإن هذا السعي يبرر بيسر مسلسل القتل، لأيٍ كان، لزعزعة الحاضر وتوكيد الحضور.

كل إسلام سياسي هو تكفيري بالضرورة. الله ورسوله منسيان لديه. ودونهما تسمن الفكرة الحزبية المقدسة. فهو يسعى من أجلها للسلطة، ويحرص على التمكن من أركان السلطة بالقوة والحيلة، من مال وسلاح وإعلام. وهذه الأركان قرينة السرقة والقتل العمد والكذب بالضرورة. ولكي يمنح هذه الوسائل الدنيئة صبغة شرعية يستعين بالأقنعة، وهي كثيرة وجاهزة في مقراته الحزبية.

لَزوال الدنيا أهون على الله من تلويث حرمة رمضان بدم صائميه. وحرمة رمضان لم تلوّث بالدم فحسب، بل طافت على تيار دم يجعل كلَّ ضمير أخرسَ جافلاً.

للشاعر الجواهري بيت في قصيدة يقول:

وخطّت الله على صدرها    وخوّضت بالدمِ حتى الحزام

لقد بدت لي هذه التي خطّت وخوّضت وكأنها الفكرة الحزبية المقدّسة للإسلام السياسي، التي وضعت الله في صدر شعاراتها ادعاء، وهي تخوّض بدم الصائم حتى منتصف قامتها.

على شاشة التلفزيون امرأة مصرية مُسنة، وسط جمع حاشد من المتظاهرين، تقول بصوت مبتهل: "يا رب، بلّغنا رمضان من غير إخوان".