حدث اليوم
كوني محامياً فقد وكلت من النائب السابق مسلم البراك في الجناية المتهم فيها موكلي بالإساءة إلى الذات الأميرية بأنه "طعن علناً وفي مكان عام عن طريق القول في حقوق الأمير وسلطته وعاب في ذاته وتطاول على مسند الإمارة... إلخ".حضرت قبل أسبوعين الجلسة الأولى بالنسبة إلي، وقد سبقتها عدة جلسات حضرها عن مسلم محامون زملاء، طلبنا من المحكمة في تلك الجلسة "نحن المحامين الذين وكلنا حديثا بالقضية" أجلاً للتحضير للدفاع، وأجابت المحكمة طلبنا بأن قررت تأجيل الجلسة أسبوعين، بينما كنا نتمنى أن تزيد تلك الفترة تحقيقاً لحق الدفاع المقدس وترسيخاً للعدالة، بعد انتهاء الجلسة سمعنا "شيلات" حماسية تشدّ من أزر مسلم، وتعبّر عن مكانة البراك في قلوب هؤلاء، كانت تعبيراً عفوياً بسيطاً مسالماً، لم تتدخل في سير العدالة ولم تشوش على عمل المحكمة، فقد كانت الجلسة مرفوعة (منتهية).
"شيلات" أي إطلاق أناشيد الحماس من أجل مسلم هي مجرد تعبير بسيط مسالم عن رأي أصحابها، كانوا يمارسون حقهم الأصيل في "التنفيس" عن مشاعر سخط وحزن ممزوجة بحماس إنساني لما يعصف بالدولة في أيامنا السوداء هذه. يبدو أن مثل تلك "الشيلات" الحماسية لم ترق للكثيرين الراضعين من ثدي بركة السلطة الحاكمة، فصوروا الأمر لأصحاب السلطان، بأن ما حدث في قاعة المحكمة بجلسة مسلم البراك في ذلك اليوم هو فوضى، وعدم احترام للسلطة القضائية وإخلال لحكم القانون، مع أنه (حجاب البيت الحاكم) يفترض أنهم آخر من يتكلم عن احترام حكم القانون!أمس ذهبت إلى قصر العدل في الموعد المحدد، وكان القصر مسيجاً بأعمدة من حديد المانع من دخول الجمهور، ووقف رجال الأمن محيطين بالبوابات، يدققون بهويات الداخلين إلى الدور الرابع الذي تعقد فيه جلسة محاكمة مسلم البراك... لم أشعر بأني في قصر العدل إنما في ثكنة عسكرية مرعبة... انتظرت مع زملائي المحامين طويلاً خارج القاعة حتى يجلس القضاء في القاعة، وحين تم ذلك، بدأ عسكري ينادي على أسماء المحامين ليسمح لهم بالدخول في محاكمة يفترض أن تكون علنية تشرع فيها أبواب القاعة للجمهور، وبغير هذا، أقصد علنية الجلسة، فلا يوجد أي معنى للعدالة ولا لحكم القانون.حين فتحت القاعة أبوابها، كأن أبواب جهنم قد شرعت لمن أراد الدخول، ومعظم المنتظرين كانوا من المحامين، فقد منعت الشرطة أصحاب الدفاع من الدخول بأمر مَن... لا أدري! وأخذ شرطي ينادي على أسماء المحامين واحداً تلو الآخر بصوت مبحوح اختلط وضاع مع صرخات المحامين المحتجين على غلق أبواب القاعة، ومصادرة حق المتهم في الدفاع بجلسة علنية، كان تزاحم المحامين على الباب الضيق المغلق عن ولوج العدالة، مثيراً للغضب بقدر ما كان مشهداً من مسرحية هزلية لم يكن من الجائز عرضها في ذلك المكان... تركت القاعة، لم أنتظر أن أسمع اسمي ينادى عليّ وكأني متسول يطرق الباب منتظراً صدقة عابرة من أصحاب البيت الموصدة أبوابه. عدت إلى مكتبي، جلست على الكرسي، فتحت كتاب "في الثورة" لحنة أرندت، وقعت عيني على فقرة تشرح الكاتبة راي مونتيسكو حول مبدأ الفصل بين السلطات، وتكتب "... إن الاكتشاف الذي تحتويه جملة واحدة فقط يطرح المبدأ المنسي الذي يحدد هيكل السلطات المنفصلة عن بعضها، وهو المبدأ الذي يقول إن السلطة توقف السلطة...". ثم في فقرة أخرى تقول "... إن القوانين تواجه دائما خطر إلغائها من قبل سلطة الكثرة، أما في حال النزاع بين السلطة والقانون فيندر أن يكون القانون فائزاً..."! لنسأل أنفسنا اليوم عن الفائز في صراع الشرعية مع السلطة!