يشعر كثير من المصريين أن دولتهم تمر بمأزق صعب، وأن أوضاعهم حرجة وشديدة الخطورة، في ظل المواجهة الحادة التي تشهدها البلاد بين الدولة والمجتمع من جهة وجماعة "الإخوان" وحلفائها في اليمين الديني المتشدد من جهة أخرى.

Ad

تستغرق الأزمة التي تواجهها الدولة المصرية جل مناقشات المصريين راهناً، وهي مناقشات تعطي انطباعاً بأن الجماعة تحقق التقدم وتتمتع بالقدرة على فرض الإيقاع والتحكم بمسار التفاعلات.

وبسبب هيمنة هذه المشاعر، لا يكاد أحد يضع نفسه في موقف الطرف الآخر؛ أي جماعة "الإخوان"، ولا يحاول معظم المحللين والباحثين تحليل أزمة هذا الآخر، وتقصي أبعاد مشكلته، التي توشك على أن تتبلور في صورة مأساة مكتملة الأركان.

والواقع أن أي تحليل منصف لما يجري في مصر راهناً لا يمكن أن يتجاهل الضغوط العارمة على الدولة والمجتمع، اللذين يواجهان عداءً شرساً من جانب تنظيم ذي طبيعة سرية ولديه تحالفات مع جماعات إرهابية ومصالح دولية وإقليمية نافذة، لكن هذا التحليل عليه أن يشير أيضاً إلى أزمة كبيرة وتاريخية تواجهها جماعة "الإخوان" نفسها، وهي أزمة تبدو أكبر من كل ما تسببه للآخرين من أزمات، وقد تطيح بعالمها تماماً.

ثمة خمسة جوانب للأزمة التاريخية التي تواجهها جماعة "الإخوان" في مصر راهناً؛ أولها يتعلق بطبيعة علاقة تلك الجماعة بالغرب. فقد عاشت الجماعة على مدى ثمانية عقود مخلصة في أدبياتها وخطابها المعلن لفكرة "التناقض مع الغرب"، وهي الفكرة التي صعدت أحياناً إلى حد "العداء العلني المفتوح"، كما تبلورت في حرص التنظيم على أن يطرح نفسه كـ"أستاذ" لهذا الغرب "ذي الحضارة الفاسدة العاجزة غير الأخلاقية".

لكن الجماعة تجد نفسها اليوم في أزمة خطيرة؛ إذ إنها تتلقى دعماً رئيساً من هذا الغرب الذي طالما نبذته واحتقرته ووعدت بالانتصار عليه، والأهم من ذلك أنها لا تتوقف عند حدود تلقي الدعم، لكنها تستدره وتستجديه وتحرص عليه، والأخطر من ذلك أن الجماعة لا تكتفي بطلب الدعم واستجدائه، لكنها أيضاً تنسق مع الغرب وتدمج سياساتها في سياساته لتضمن نجاعة هذا الدعم واستدامته.

أما الجانب الثاني من أزمة الجماعة التاريخية فيتعلق بموقفها من إسرائيل. فقد استطاعت الجماعة إقناع أعضائها وأنصارها بأنها تعادي إسرائيل وتستهدف تحرير فلسطين، وأن ما يمنعها عن مقارعة "هذا العدو" ليس سوى "الأنظمة العميلة" التي توالت على حكم مصر، و"لجمت" طموح الجماعة إلى تفعيل شعارها الأثير: "خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود".

لكن ما جرى خلال أكثر من عام تحت حكم "الإخوان" كان شيئاً معاكساً تماماً، ففي منتصف شهر أبريل الماضي، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية تصريحات نادرة ومهمة لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال بيني جانتس، يؤكد فيها أن التنسيق الأمني بين القاهرة وتل أبيب "تحسن كثيراً" منذ وصول "الإخوان" إلى الحكم في مصر.

ليس هذا فقط، لكن داني دانون، نائب وزير الدفاع الإسرائيلي، وصف العلاقات الأمنية المصرية- الإسرائيلية في فترة حكم "الإخوان" بـ"الأفضل" بين الجانبين، أما عاموس جلعاد، المسؤول الرفيع بالوزارة نفسها، فقد نقلت عنه صحيفة "نيويورك تايمز" قوله: "إن التزام مصر باتفاق السلام معنا تحسن وصار أكثر كثافة".

ستكون المسألة أكثر وضوحاً إذا تذكرنا في هذا الصدد نص الخطاب الذي أرسله مرسي لنظيره الإسرائيلي شمعون بيريز، وهو الخطاب الذي وصفه فيه بـ"الصديق الوفي"، وتحدث فيه عن إسرائيل باعتبارها "دولة صديقة"، راجياً لها "التقدم".

وسيزداد الوضوح بالطبع حين نتذكر كيف أشاد الأميركيون والإسرائيليون في أرفع المستويات بما فعله مرسي أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، حيث تدخل الرئيس المصري آنذاك بشكل أدى إلى نهاية الأزمة والحفاظ على "أمن إسرائيل" حتى اللحظة الراهنة.

الجانب الثالث لأزمة "الإخوان" يتعلق بادعائها التاريخي بتبنيها لـ"المشروع الإسلامي"؛ إذ بنت تلك الجماعة تمركزها الرئيس في الواقع السياسي والاجتماعي المصري على فكرة "تطبيق شرع الله"، وهي الفكرة التي صكت لها الشعار الأبرز والأكثر استخداماً في تاريخ الجماعة؛ أي شعار "الإسلام هو الحل".

لكن ما جرى تحت حكم "الإخوان" كان شيئاً محبطاً للأنصار الطيبين الذين انتظروا وصولها للحكم لتطبيق "الشريعة"، وإعلان قيام الدولة الإسلامية، وتحقيق الرخاء والعدل بمجرد "حلول بركات التقوى والامتثال".

لم يبرهن "الإخوان" على وفاء لـ"المشروع الإسلامي"، الذي صدّعوا الرؤوس بالحديث عنه على مدى عقود؛ بل تبنوا إدارة مشابهة تماماً لتلك التي عرفناها في عهد مبارك، وإن تميزت بخطل وفشل قياسيين، ولم تعكس أي التزام تجاه عملية "الأسلمة" من قريب أو بعيد.

أما الجانب الرابع لأزمة "الإخوان" فيتعلق بعلاقتها بالعنف، فلطالما تحدثت الجماعة عن أنها "جماعة دعوية" وعن تبنيها للسلمية في كافة أوجه عملها، محاولة التعمية على تورطها الشائن في عمليات عنف سياسي واضحة مثل قتل القاضي الخازندار قبل ثورة يوليو 1952، أو محاولة اغتيال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعدها، إضافة إلى كل ما قيل عن تنظيمها الخاص، لكن الجماعة ستجد الآن صعوبة بالغة، وربما استحالة، إذا ما حاولت مجدداً التنصل من استخدام العنف أو الادعاء بتجنبه.

لقد تورطت الجماعة في ممارسة العنف بشكل شهد عليه العالم أجمع، ليس فقط من خلال صور أعضائها وأنصارها الذين أطلقوا النيران من الأسلحة الآلية في التظاهرات التي شهدتها مصر أخيراً، أو من خلال أعلام القاعدة التي رفعها أنصارها أحياناً، أو عبر الجثث التي وجدتها قوى الأمن في مقري تجمعي "رابعة" و"النهضة"، أو في وقائع التعذيب والقتل المثبتة بحق قيادات وأفراد في الجماعة، ولكن أيضاً من خلال التصريح الشهير للقيادي البلتاجي الذي قال بوضوح "هذا الذي يحدث في سيناء (يقصد قتل الجنود والضباط في عمليات إرهابية) سيتوقف في الثانية التي يعود فيها السيسي عن قراراته".

ويتعلق الجانب الخامس من أزمة الجماعة الراهنة بما يمكن تسميته "انهيار صورة القيادة". لقد بنيت جماعة "الإخوان" على تنظيم داخلي شديد التماسك والصلابة، وكان العامل الرئيس في بقاء هذا التماسك يتمثل بالخضوع الطوعي للقيادة، والانبهار التلقائي بمناقبها وأدائها، والتسليم المباشر بكونها ملهمة وتتحلى بالحكمة الكفاءة، وهو الأمر الذي كان يتلخص في مفهوم "البيعة" بما تستتبعه من التزام وإيمان بمكانة القيادة، بحيث يصبح تقبيل يد المرشد أو القادة الأعلى في البناء التنظيمي عملاً مطلوباً ومحبباً ومعتاداً في آن.

لقد تعرضت صورة القيادة لأضرار لا يمكن جبرها في المدى القريب أو المتوسط، بعدما برهنت على تدن قياسي في الكفاءة، وتخبط كبير، واهتزاز وافتقاد للرؤية، بشكل قاد الجماعة إلى المأزق الصعب الذي تعيشه الآن، وهو الأمر الذي أدركته قطاعات داخلها، خصوصاً في صفوف الشباب، الذين عاينوا الأداء المتردي لقادتهم، وعانوا الخسائر في الشارع، فصغرت صورة القادة في أعينهم، وباتوا بالنسبة إليهم "بشراً عاديين" بل "قادة مقصرين" بعدما كانوا أقرب إلى "العصمة".

لا شك أن المصريين، في أغلبيتهم العظمى، يواجهون أزمة كبيرة في مواجهة "الإخوان" راهناً، لكن المؤكد أيضاً أن الجماعة تواجه أزمة أكبر من الممكن أن تخرجها من معادلة المستقبل في مصر لسنوات طويلة، إن أخفقت في احتواء آثارها.

* كاتب مصري