الولايات المتحدة تفقد جرأتها في الخارج
تهدف مقاربة أوباما إلى نزع الطابع العسكري عن سياسة الولايات المتحدة الخارجية، فالحرب التي حددت موقف الولايات المتحدة من العالم طوال 12 سنة منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر ستنتهي في المستقبل القريب، وهكذا تعود الولايات المتحدة إلى وجودها المحدود الذي كانت تملكه في مختلف دول العالم قبل الحادي عشر من سبتمبر.
على غرار بغداد، تبدو مدينة كابول الأفغانية مركزاً متقدّماً للإمبريالية الأميركية، فتضم "المنطقة الخضراء" المألوفة، نقاط التفتيش التي تُضطر إلى التمايل بينها، المواكب المصفّحة التي تعلو وراءها سحب العبارات وهي تمرّ مسرعةً، وأجهزة تعطيل المتفجرات التي تبرز كأذيال الطواويس.لكن كل هذا الوجود الكبير يسعى إلى هدف واحد: الانسحاب.
يعمل المستشارون العسكريون الأميركيون في كابول والأقاليم الأفغانية الأخرى على بناء قوى أمنية أفغانية بصبر ودقة، كما لو أنهم لبوة تربي جراءها لتتحوّل إلى صيادين مهرة. تُعتبر أفغانستان من الأمم الأفقر والأكثر فساداً في العالم، لكن الجيش الوطني الأفغاني الحديث الولادة لا يحصل على المعدات الفائضة الأقل جودة التي تُخصَّص عادة لدول العالم الثالث، فقد طلبت وزارة الدفاع الأميركية من شركة Textron حاملات جند مصفّحة جديدة كلفة كلها منها مليون دولار، وهي متطورة جدّاً حتى إن كندا اشترت 500 منها ليستخدمها جيشها. يذكر جون سيمبسون، قائد الفريق في Textron: "تؤمن هذه الحاملات الحماية عينها التي نملكها في آلياتنا"، كذلك تبني واشنطن في كابول مقار دفاعية ضخمة تُعتبر من الأكبر في العالم وتصل كلفتها إلى 92 مليون دولار.لا يهدف كل هذا الإنفاق إلى توسيع النفوذ الأميركي. على العكس، تنفق الولايات المتحدة هذه المبالغ لتسرّع عملية تجهيز أفغانستان كي تصبح مستعدة لتولي شؤونها هي بنفسها في أسرع وقت ممكن، وكي نضمن ألا نُضطر إلى العودة إلى هذا البلد بالقوة. لا يبدو الرئيس الأفغاني حامد كرزاي بحد ذاته مستعجلاً لرحيل الولايات المتحدة، فما زال يتلقى أكياس المال من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ويصرّ علانية على ألا يمنحنا أكثر من تسع قواعد بعد عام 2014، لكن الرئيس أوباما يبدو متلهفاً لإخراج قواتنا من أفغانستان (وتُظهر كل استطلاعات الرأي أنه مصيب في قراره هذا). كذلك يبدو متردداً في الإقدام على أي التزام يشمل جنودنا، سواء في أفغانستان أو أي مكان آخر، ولا تقتصر هذه المسألة على رغبة الكثير من الأميركيين في الانسحاب من أفغانستان، بل تشمل أيضاً رفضهم إرسال الجنود إلى أي بقعة أخرى من بقاع الأرض، حتى لو كان هدف ذلك وقف كارثة إنسانية (وخصوصاً سورية) أشد فظاعة من كارثة كوسوفو في أواخر تسعينيات القرن الماضي.يُظهر استطلاع رأي أجري أخيراً أن 68% من الأميركيين يؤيدون عدم استخدام الولايات المتحدة القوة العسكرية في سورية، حتى لو أخفقت الجهود الدبلوماسية في إنهاء الحرب الأهلية. يتفاعل الرئيس أوباما مع هذا المزاج العام الذي سئم الحرب؛ لذلك سعى خلال سلسلة من الخطابات والخطوات (مخالفاً، مثلاً، نصيحة معظم أعضاء فريق الأمن القومي في إدارته برفضه إرسال أسلحة إلى سورية) إلى تأكيد أنه يتجاوب مع ما يريده الشعب. لكنه بتصرفه هذا، يتخلى، وفق النقاد، عن القيادة الأميركية في عدد من المناطق الحساسة من العالم، ما يخلّف فراغاً تحاول قوى أكثر عدائية، مثل روسيا والصين، ملأه.على خطى أيزنهاور لم نشهد موقفاً مماثلاً منذ عقود أو ربما منذ عهد أيزنهاور نحو منتصف خمسينيات القرن الماضي، ففي تلك الحقبة، دفعت ذكريات الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية، التي كانت لا تزال قوية، فضلاً عن الخوف من تفاقم الحرب الباردة، أيزنهاور إلى تفادي أي صراع مفتوح في الخارج (مع أنه كان يهوى، على غرار أوباما، الأعمال السرية). على نحو مماثل، نشهد اليوم ميلاً داخلياً في سياسة الولايات المتحدة الخارجية وتوجهاً إلى الداخل يراه البعض نوعاً من سياسة العزلة الجديدة. ومقارنة بنزعة المحافظين الجدد قبل عقد (إيمان بنشر عدائي للقوة الأميركي نادى به أخيراَ ميت رومني خلال حملته الرئاسية عام 2012)، يُعتبر هذا الميل تبدّلاً جذرياً في التوجه العام. وتتجلى أسباب هذا التبدّل بوضوح، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أننا نشعر أننا منهكون ومستنفدو القوى من الناحيتين المالية والعاطفية؛ لذلك نريد العودة إلى الوطن، ولا يقوم أوباما بما يتعدى نقل هذه المشاعر، بغض النظر عما إذا كان مصيباً في ذلك أو لا.في تسعينيات القرن الماضي، ابتكر السفير الراحل ريتشارد هولبروك مصطلح متلازمة "فيت-مال"، أي فيتنام والصومال (معضلة "سقوط الصقر الأسود")، ليوضح تردد الرئيس كلينتون في التدخل في الخارج. لكن كلينتون تمكن في النهاية من تخطي هذه المتلازمة وتدخل في البوسنة وكوسوفو، غير أن ما يصوغ قرارات السياسة الخارجية اليوم يبدو أقوى، لندعوه متلازمة "عراق-غازي-ستان". تشمل هذه المتلازمة التأثيرات المريعة للمصاعب التي واجهناها في العراق، للحرب الطويلة في أفغانستان، والعواقب الدموية والمحرجة التي تلت تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا (وخصوصاً اعتداءات بنغازي في 11 سبتمبر عام 2012، التي أدت إلى مقتل السفير كريس ستيفنز وثلاثة أميركيين آخرين، وانتشار أسلحة معمر القذافي في المنطقة).من الواضح أن فكرة "التدخل الإنساني"، التي سيطرت على المناظرات السياسية قبل الحادي عشر من سبتمبر، تحوّلت بالنسبة إلى فريق أوباما إلى "مفهوم أننا يجب ألا نقدِم على خطوات ما فقط لأنها تمنحنا شعوراً جيداً"، حسبما ذكر أحد مسؤولي الإدارة، ولكن هل نمتنع عن القيام بما يجب على الولايات المتحدة فعله، سواء كان تدخلاً لوقف كارثة إنسانية أو للحد من نمو قوة الصين وروسيا؟يقول مسؤولو إدارة أوباما إن ما نشهده اليوم لا يُعتبر انسحاباً أو انعزالاً، بل "إعادة موازنة" استخدام القوة الأميركية وتحويلها من قوة "قاسية" إلى قوة "ناعمة" عقب إخفاق التدخلات العسكرية، وخصوصاً في العراق. ويقدّمون مثالاً لذلك تخصيص 250 مليون دولار من المساعدات الإنسانية الأميركية إلى الثوار السوريين بغية مساعدتهم على تطوير بنية سياسية بديلة تحلّ محل نظام بشار الأسد. أخبر بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي في إدارة أوباما، National Journal في مقابلة أخيرة معه: "لا أعلم ما النفوذ الذي كسبناه في العراق من إرسال الجنود إلى هذا البلد. أؤكد أن التزاماتنا حول العالم اليوم تفوق ما كانت عليه قبل عشر سنوات... لأننا قبل عشر سنوات كنا نصب كل اهتمامنا على العراق".يضيف رودس: "من الواضح أننا نعيش في زمن التقشف". رغم ذلك، يشير إلى أن الرئيس يدعو إلى زيادة المساعدات المدنية الخارجية. ثم يقول: "بات الجدال الدائر اليوم من نواحٍ عدة ولأسباب شتى مشوهاً بالكامل، فيعتبر كثيرون أن مَن يؤيدون التزاماتنا حول العالم يدعمون أيضاً إبقاء جنودنا في دول الشرق الأوسط. أما مَن لا يؤيدون ذلك، فهم انعزاليون... يا له من تشويه غريب!".تهدف مقاربة أوباما في الواقع إلى نزع الطابع العسكري عن سياسة الولايات المتحدة الخارجية، فالحرب التي حددت موقف الولايات المتحدة من العالم طوال 12 سنة منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر ستنتهي في المستقبل القريب، وهكذا تعود الولايات المتحدة إلى وجودها المحدود الذي كانت تملكه في مختلف دول العالم قبل الحادي عشر من سبتمبر لأن أوباما أعلن أن "الإرهاب في المستقبل" سيشكّل "خطراً أصغر يشبه الاعتداءات التي تعرّضت لها الولايات المتحدة قبل الحادي عشر من سبتمبر".قال أوباما: "بعد أفغانستان، يجب ألا نعرّف جهودنا كحرب على الإرهاب لا حدود لها، بل كسلسلة من الجهود الملحة المحدّدة التي تهدف إلى تفكيك شبكات معيّنة من المتطرفين العنيفين الذين يهددون الولايات المتحدة". كذلك سيحدّ أوباما من هجمات الطائرات بدون طيار ومن المعايير التي تُستخدم لتعريف الأعداء الاستراتيجيين. ويعود ذلك في جزء منه، وفق أوباما، إلى أن "الأعمال العسكرية الأميركية في الدول الأجنبية تهدد بتوليد المزيد من الأعداء". خلاصة القول: يريد أوباما أن يحوّل الإرهاب من حرب إلى مشكلة أجهزة الأمن والاستخبارات، فلا ترغب الولايات المتحدة في اكتساب المزيد من الأعداء، ولا تودّ خوض المزيد من الحروب.Michael Hirsh