في رأي غوستاف لوبون، المهتم بثقافة الجماهير النفسية وتقلباتها، الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من التخريب أثناء الثورة الفرنسية لا بد من نيلها في نهاية الأمر مع سير الحضارة بلا كبير عناء. أي أن لوبون يقول بمبدأ التطور التدريجي للفوز بما قد لا يؤدي إليه العنف، وإن ما تنتهي إليه الثورات من النتائج يكون قد نضج نضجاً غير شعوري في الماضي فتكون الثورات طوراً أخيراً لهذا النضج يمكن حدوثه بلا عنف وجور.

Ad

يطلق لوبون في كتابه {روح الثورات والثورة الفرنسية}اسم الثورات على الانقلابات السياسية والدينية والعلمية، كما يحدّد شأن الحكومات والأمة في الثورات، وهو لا يتردد في تقديم بيان كاشف عما يسود الثورات من حقد وخوف وحرص وحسد وزهو وحماسة، كذلك يبحث عن روح الجماعات والمجالس الثورية. ويعتبر لوبون أنه قد ينتج من الثورة في نهاية الأمر معتقد، لكنها تنشأ غالباً عن عوامل عقلية كالقضاء على ظلم فادح واستبداد ممقوت أو حاكم يبغضه الشعب مع أن العقل هو أصل الثورة، فإن الأسباب التي تهيئها لا تؤثر في الجماعات إلا بعد أن تتحول إلى عواطف.

يتوصَّل لوبون إلى استنتاجات عدة في توصيف واقع الثورة الفرنسية، يقول: {شأن الشعوب واحد في الثورات كلها، فهي لا تدرك مغزاها ولا تتدبر أمرها سريعاً. أما مبادئ الثورة فلا تدخل في قلب الشعب إلا بالتدريج... الثورة مهما كان مصدرها لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها إلى روح الجماعة. فالثورات الكبيرة هي ثورات الطبائع والأفكار، وفي الغالب تتم الثورات الحقيقية التي يتوقف عليها مصير الأمم بالتدريج... لذلك نرى كلمة التطور أصح في التعبير عن المقصود من كلمة الثورة... ولذلك يتعذر على الأمة أن تختار نظمها الحاكمة قبل أن تغير روحها أولاً}.

نفوس مضطربة

يتحدث لوبون عن النفوس التي تسود المجتمع في أيام الثورة فيوضح: {تشتمل المجتمعات في كل زمن على عدد من النفوس المضطربة المتقلبة الساخطة المتأهبة للتمرد الراغبة في الفتنة للفتنة نفسها، ولو أن قوة سحرية حققت آمالها بلا قيد ولا شرط ما عدلت عن التمرد}.

ويقول لوبون إن أكثرية أعضاء مجالس الثورة الفرنسية كانوا مطبوعين على اللامبالاة، محايدين وهم يرون المقاصل تعمل بأقصى سرعتها... كان شعارهم {ما دامت المقصلة بعيدة عن رقبتي فالبلاد تسير على الطريق الصحيح}. أما الثورة الفرنسية نفسها، وإن لم تنقض سوء جزء يسير من مقومات الماضي، أعانت على انكشاف بعض المبادئ التي استمرت على النمو، وأبرزها مبدأ المساواة، الذي صار قطب الاشتراكية والديمقراطية في الوقت الحاضر، وبهذا يقصد أن تلك الثورة التي لم تنته بظهور الإمبراطورية ولا بالأنظمة التي ظهرت بعد الإمبراطورية، انتشرت بالتدريج مع الزمن، ولا تزال ذات سلطان على النفوس. ويبين لوبون أن كثيراً من الكتب التي بحث فيها عن الثورة الفرنسية فيها أقاصيص كثيرة بعيدة عن الحقيقة، ويعتبر أن التراث الوهمي الذي ورثناه عن الآباء يورث سلطاناً أشد من سلطان الحقائق في بعض الأحيان، {الأوهام والخيالات والأساطير هي التي تقود التاريخ}.

حضارة العرب

ولد غوستاف لوبون في مقاطعة نوجيه لوروترو، في فرنسا عام 1841. درس الطب، وقام بجولة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا. اهتم بالطب النفسي وأنتج فيه مجموعة من الأبحاث المؤثرة عن سلوك الجماعة، والثقافة الشعبية، ووسائل التأثير في الجموع، ما جعل من أبحاثه مرجعاً أساسياً في علم النفس، ولدى الباحثين في وسائل الإعلام في النصف الأول من القرن العشرين.

وساهم لوبون في الجدل الدائر حول المادة والطاقة، وألف كتابه {تطور المواد} الذي حظي بشعبية كبيرة في فرنسا. كذلك حقق نجاحًا كبيرًا مع كتابه {سيكولوجية الجماهير}، ما منحه سمعة جيدة في الأوساط العلمية، اكتملت مع كتابه الأكثر مبيعاً {الجماهير: دراسة في العقل الجمعي}. وأصبح صالون غوستاف لوبون أحد أشهر الصالونات الثقافية التي تقام أسبوعياً آنذاك، وكانت تحضره شخصيات المجتمع المرموقة أمثال: بول فاليري، هنري برغسون، وهنري بوانكاريه.

عُرف لوبون بأنه أحد أشهر فلاسفة الغرب الذين أنصفوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية، فلم يسر على نهج مؤرخي أوروبا الذين صار من تقاليدهم إنكار فضل الإسلام على العالم الغربي. لكن لوبون الذي ارتحل في العالم الإسلامي وله فيه مباحث اجتماعية، أقرّ أن المسلمين هم مَن مدَّنوا أوروبا، فرأى أن يبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يُبديه للعالم في صورته الحقيقية؛ فألف عام 1884 كتاب {حضارة العرب} جامعًا لعناصر الحضارة العربية وتأثيرها في العالم، وبحث في أسباب عظمتها وانحطاطها وقدمها للعالم تقديم المدين الذي يدين بالفضل للدائن. توفي لوبون في ولاية مارنيه لاكوكيه، في فرنسا 1931.