تراجع نفوذ الولايات المتحدة في العالم العربي
تُستخدم الحصة العسكرية من المساعدة السنوية لمصر (1.3 مليار دولار) لشراء طائرات ودبابات أميركية الصنع، أما الحصة غير العسكرية (250 مليوناً) فلا تشكل إلا قطرة في بحر اقتصاد مصر الواسع، ويدرك السيسي ومصريون كثر هذا الواقع لكن سياسيين أميركيين يبدون أحياناً غافلين عنه.
صحيح أن "الربيع العربي" لم ينجح في نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، إلا أنه قدم دليلاً قوياً على ظاهرة مختلفة: وهم تأثير الولايات المتحدة في حكومات كنا نعتبرها سابقاً من عملائنا.لنتأمل في الوضع المصري، فقبل عام 2011، حاولت إدارتا بوش وأوباما حض الحاكم المستبد حسني مبارك على تبني الديمقراطية، بيد أن مبارك تجاهل النصيحة، وفي السنة الماضية، رجت إدارة أوباما (بلطف) الرئيس المصري المنتخب بحرية محمد مرسي أن يجعل حكومة "الإخوان المسلمين" أكثر شمولاً، وتجاهل مرسي بدوره النصيحة، ثم سيطرت القوات المسلحة المصرية على السلطة، وها هي الولايات المتحدة اليوم تطلب من الفريق الأول عبدالفتاح السيسي الحد من أعمال القمع القاسية، فهل يصغي؟ هذا مستبعد، فماذا حل، إذن، بنفوذنا كقوة عظمى؟
إذا توقعنا تمتع الولايات المتحدة بتأثير في مؤسسة ما في العالم العربي، يجب أن تكون هذه الحكومة المصرية، التي تحصل على مساعدة أميركية سنويا قدرها 1.6 مليار دولار.لكن عاملين أساسيين ساهما في تراجع النفوذ الذي تمتعت به الولايات المتحدة من خلال تقديمها المساعدات، ألا وهما قلة الأموال واشتداد المنافسة.أولاً، ما عاد 1.6 مليار دولار مبلغاً كبيراً، كما كان سابقاً، فقد تقلصت القدرة الشرائية لهذا المبلغ بشكل متواصل خلال معظم مسيرة السيسي المهنية، وإذا أخذنا التضخم في الاعتبار، نلاحظ أن مساعدة الـ1.6 مليار دولار تعادل هذه السنة ثلث ما كانت تنفقه الولايات المتحدة لدعم مصر عام 1986.تُستخدم الحصة العسكرية من هذه المساعدة السنوية (1.3 مليار دولار) في جزئها الأكبر لشراء الطائرات والدبابات الأميركية الصنع. أما الحصة غير العسكرية (250 مليون دولار)، فلا تشكل إلا قطرة في بحر اقتصاد مصر الواسع. يدرك السيسي ومصريون كثر هذا الواقع جيداً، لكن السياسيين الأميركيين يبدون أحيانا غافلين عنه.علاوة على ذلك، تدخلت قوى أخرى لسد هذه الفجوة، ففي الشهر الماضي، أعلنت دول خليجية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أنها ستقدم لمصر مساعدات اقتصادية قدرها 12 مليار دولار كي تدعم النظام العسكري وتساعده في تثبيت الاقتصاد، لكن هذه الدول تملك أجندتها الخاصة، فهي تخشى جماعة "الإخوان المسلمين"، ولا تتوق إلى إعادة إرساء الديمقراطية، ولا يزعجها مطلقاً اعتماد السيسي أساليب قمع متشددة وعنيفة. وإن كانت المساعدات الخارجية تمنح النفوذ، تتمتع هذه الدول الخليجية، إذن، بنفوذ أكبر لأن ملياراتها الاثني عشرة تفوق بأشواط الـ1.6 مليار الأميركية. بالإضافة إلى ذلك، يشكل النفوذ الخارجي في الدول التي تسير متعثرة نحو الديمقراطية سيفاً ذا حدين، فقد نفرت إدارة أوباما كلا الطرفين في المعركة السياسية المصرية. يظن "الإخوان المسلمون" أن الولايات المتحدة خططت لتقوض أسسها، في حين يعتقد الجيش وداعموه العلمانيون أن الولايات المتحدة تتعامل مع السيسي بقسوة مبالغ فيها اليوم.في مطلق الأحوال، يعتبر المصريون أن قضايا كثيرة بالغة الأهمية مهددة اليوم؛ لذلك من المستبعد أن يأخذوا نصائح الولايات المتحدة في الاعتبار، فيذكر ستيفن أ. كوك، خبير في الشأن المصري في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي: "لا ننعم اليوم بأهمية كبيرة في مصر، وإن كنت قائداً مصرياً، فلا شك أن أفضل الاستراتيجيات التي قد تعتمدها يقوم على تحدي واشنطن".وهذا ما يقوم به السيسي بالتحديد، فقد أخبر صحيفة "واشنطن بوست" أخيراً: "أدرتم ظهركم للمصريين، ولا يمكنهم نسيان ذلك، فضلاً عن أن إطالة الحديث عن المساعدة والدعم الأميركيين يؤذي حقا كبرياءنا وفخرنا... [ولكن] إذا أراد الأميركيون قطع المساعدات، فليفعلوا".يعكس استياء هذا الفريق الأول معضلة أخرى: من الصعب استخدام المساعدات الخارجية كمصدر نفوذ. صحيح أن التهديد بوقف المساعدات العسكرية يشكل طريقة جيدة للفت انتباه القادة المصريين، إلا أن التخفيض الفعلي للتعاون العسكري قد يسيء حقا إلى المصالح الأميركية كما المصرية، ولا تقتصر هذه المصالح على الحفاظ على السلام مع إسرائيل، بل تشمل أيضا جهود مكافحة الإرهاب في مختلف أرجاء العالم العربي؛ ولهذا السبب سارع البيت الأبيض بقيادة أوباما إلى رفض إغراء وصف استيلاء السيسي على السلطة انقلابا وتجميد المساعدات الأميركية. بدلاً من ذلك، تُركت إلى وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، مهمة تصنيف ما أقدم عليه الجيش كما يلي: "يعيد الجيش إرساء الديمقراطية".يعتبر المصريون أن هذه الرسالة مألوفة، إن لم تكن جلية، فقد هدد القادة الأميركيون طوال عقدين بوقف المساعدات، إن لم تتبدل الأوضاع، غير أنهم لم يتجرؤوا يوما على تنفيذ تهديدهم هذا، ومن المستبعد أن يقدِموا على خطوة مماثلة اليوم.تنطبق الحدود ذاتها، وإن بنسب متفاوتة، على سياسة الولايات المتحدة في أجزاء أخرى من العالم العربي، ففي عام 2012، اقترح أوباما تقديم تمويل جديد للديمقراطيات الناشئة في العالم العربي، لكن معظم هذه الأموال لم تبلغ وجهتها. تذكر تامارا كوفمان ويتس، باحثة من "مركز سابان" في معهد بروكينغز تتولى إدارة برامج المساعدة المخصصة للديمقراطية في وزارة الخارجية الأميركية: "نتفاعل مع حوادث لها عواقب تاريخية، مقدمين مبالغ توازي العملات القليلة التي تسقط بين وسائد الأريكة".لا يعني ذلك بالضرورة أن الولايات المتحدة لا تؤثر مطلقاً في مجرى أحداث العالم العربي، لكنه يشير إلى أننا نملك تأثيراً أقل مما نتخيله عادة، وقد لا يعود مصدر نفوذنا إلى حجم الشيكات التي نكتبها. توضح ويتس: "نتمتع بنفوذ، إلا أنه ليس في المواضع التي نخالها، وتريد هذه الدول في المقام الأول اعترافاً دولياً، وترغب في التواصل مع سائر العالم، كذلك تود نيل مباركتنا، وقد يشكل ذلك مصدر نفوذنا الأكبر".* دويل ماكمانوس | Doyle McManus