ضرب إيران... أم تضييق الخناق حولها... أم احتواؤها؟
ظهرت ثلاث مدارس فكرية قدّمت كل منها أجوبة مختلفة عن هذه الأسئلة. أسمي هذه المدارس، نظراً إلى غياب مصطلحات أفضل بـ«مؤيدي الضربة العسكرية»، و«الداعين إلى تضييق الخناق»، و«المطالبين باحتواء إيران».
صحيح أن الحرب الأهلية السورية تتصدر عناوين الأخبار حول العالم، لكن الجدال مازال مستعراً في واشنطن، وتل أبيب، وغيرهما من العواصم بشأن الطريقة الفضلى لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية. فمازال صانعو السياسات والأكاديميون يتخبطون مع مجموعة الأسئلة عينها بشأن إيران: هل سلوك إيران منطقي؟ هل يمكننا ردعها؟ ما هي طموحاتها النووية؟ هل تكتفي بامتلاكها القدرة على تطوير أسلحة نووية أم أنها مصممة على بناء ترسانة ونشرها؟ هل العقوبات فاعلة؟ ما احتمال نجاح ضربة عسكرية هدفها تدمير برنامج إيران النووي؟ ما مخاطر مثل هذا الهجوم؟ وما العواقب السياسية والاستراتيجية لحصول إيران على أسلحة نووية؟ظهرت ثلاث مدارس فكرية قدّمت كل منها أجوبة مختلفة عن هذه الأسئلة. أدعو هذه المدارس، نظراً إلى غياب مصطلحات أفضل، "مؤيدي الضربة العسكرية"، "الداعين إلى تضييق الخناق"، و"المطالبين باحتواء إيران". لا أهدف بتسمياتي هذه إلى الاستهزاء، بل إلى إظهار الافتراضات الجوهرية والحلول السياسية التي تطرحها الأصوات الأبرز في الجدال الدائر حول إيران.
تؤيد الفئة الأولى توجيه ضربة عسكرية. فيعتقد هؤلاء أن العملية العسكرية وحدها تنهي برنامج إيران النووي، وأن من الأفضل توجيه هذه الضربة العسكرية في القريب العاجل. ويظنون أن إيران عاقدة العزم على بناء أسلحة نووية، وأنها أوشكت أن تحقق هدفها هذا، وأن دولة إيرانية نووية ستشكل خطراً أكبر في الشرق الأوسط. كذلك تظن هذه الفئة أن العقوبات غير فاعلة وأن إيران تستغل المفاوضات بكل بساطة لتكسب المزيد من الوقت. وتقوم خطوطها الحمراء التي تؤدي إلى ضربة عادةً على تقييمات شخصية، مثل "نقطة اللاعودة" أو "منطقة الحصانة". كذلك يميل مؤيدو الضربة العسكرية إلى التقليل من شأن الرد الإيراني أو تصعيد الصراعات الإقليمية.تدعو الفئة الثانية إلى تضييق الخناق حول إيران. يظن هؤلاء أن استراتيجية دبلوماسية تجمع بين الترهيب والترغيب يمكن أن تمنع إيران من تطوير أسلحة نووية. فمن وجهة نظر هذه الفئة، يخضع سلوك إيران لحسابات منطقية للكلفة والخسارة، ولم يقرر القائد الأعلى بعد تطوير أسلحة نووية. صحيح أن أتباع هذه المدرسة يختلفون في ما بينهم بشأن المقاربة الدبلوماسية الفضلى (هل نعتمد "صفقة كبرى" أم نبدأ بخطوات بسيطة ثم نزيدها تعقيداً؟)، إلا أنهم يؤيدون جميعهم أهمية المفاوضات، وفاعلية العقوبات، وجاذبية وسائل الترغيب الإيجابية التي قد تقنع القادة الإيرانيين بالتخلي عن طموحاتهم في مجال الأسلحة النووية. ولا تستبعد هذه الفئة أيضاً احتمال اللجوء إلى القوة، غير أنها تعتبرها الحل الأخير. وتميل إلى فرض خطوط حمراء أكثر جدية من الداعين إلى الضربة العسكرية، مثل طرد محققي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتجاهل معايير الأمان في عملية تخصيب اليورانيوم. كذلك تطرح شروطاً أكثر يلزم استيفاؤها قبل السماح باستخدام القوة.تعتقد الفئة الثالثة الداعية إلى الاحتواء أن لا مفر من دولة إيرانية نووية، وأن الاحتواء هو الرد الاستراتيجي الأنسب. وعلى غرار الداعين إلى ضربة عسكرية، يظنون أن إيران مصممة على تطوير أسلحة نووية. كذلك لا يعتقدون، على غرارهم، أن العقوبات ستشكل عقبة كبيرة في طريق إيران أو أن وسائل الترغيب الإيجابية كافية لتقنع طهران بتبديل حساباتها. ولكن بخلافهم، لا يعتبرون النظام الإيراني متهوراً، انتحارياً، وغير عقلاني، بل يشيرون إلى تناقض بارز في نظرية الداعين إلى ضربة عسكرية: ستتصرف إيران بتهور في حال طورت القنبلة، إلا أنها ستتوخى ضبط النفس إن هاجمناها نحن أولاً.يختلف المطالبون باحتواء إيران عن مؤيدي الضربة العسكرية والداعين إلى تضييق الخناق بطريقتين بارزتين. أولاً، يرى المطالبون باحتوائها أن مخاطر العمل العسكري أكبر بكثير من فوائده. حتى إنهم أكثر تشكيكاً من أنصار تضييق الخناق في قدرة الضربات الجوية على القضاء على البرنامج النووي الإيراني لفترة طويلة من الزمن من دون التسبب بأضرار جانبية. ولا تُعتبر هجمات إسرائيل على المفاعل العراقي عام 1981 والمفاعل السوري عام 2007 سابقتَين جيدتَين، لأن الهدف في كلتا هاتين الحالتين كان منشأة واحدة حصلت على معداتها من دولة أخرى وما كان بالإمكان إعادة بنائها بموارد محلية. في المقابل، يتوزع البرنامج النووي الإيراني على عشرات المواقع، وتتمتع إيران بقاعدة محلية علمية وتقنية من الممكن استعمالها لإعادة بناء البرنامج النووي.أما الاختلاف المهم الآخر فيكمن في أن مؤيدي الاحتواء لا يعتقدون، بخلاف الفئتين الأخريين، أن امتلاك إيران أسلحة نووية سيكون له عواقب كارثية تتطلب حرباً وقائية. ويصرون على أن الأسلحة النووية لا تصلح إلا كرادع، ولا تتيح لها الضغط على الدول الأخرى. فإن كانت أسلحة الولايات المتحدة النووية المنشورة البالغ عددها ألفاً وثمانمئة لا تمنح واشنطن القدرة على إرغام إيران على الانصياع لها، فلمَ تمنح مجموعة صغيرة من الأسلحة النووية إيران القدرة على الضغط علينا في المستقبل؟يتطلب احتواء إيران تعاون جيرانها، تعاوناً سيصبح أكثر صعوبة بعد أن نوجه لإيران ضربة وقائية. يتوقع مؤيدو الاحتواء أن تتطلع دول الشرق الأوسط، التي تبحث عن حماية من إيران، إلى الولايات المتحدة للحصول على ضمانات أمنية ودعم عسكري تقليدي. بكلمات أخرى، ستسعى إلى إيجاد نوع من التوازن بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. ولا شك في أن هذا سيصعّب على إيران تحقيق مكاسب ملموسة تتخطى حدودها بفضل أسلحتها النووية. إذن، ماذا يعني هذا الجدل بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية واستراتيجيتنا تجاه إيران؟ بغض النظر عن المدرسة التي ننتمي إليها، ثمة سياسات ثلاث تستطيع الولايات المتحدة تطبيقها لتعزز موقفها في محادثاتها الراهنة مع إيران. أولًا، كي تنجح عملية تضييق الخناق، يجب أن تخاف إيران من تفاقم العقوبات في حال لم تحقق مفاوضاتها مع مجموعة 5+ 1 (الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إضافة إلى ألمانيا) تقدماً قريباً. يتطلب ذلك من إدارة أوباما أن تبدأ العمل مع الكونغرس وسائر أعضاء مجموعة 5+ 1 لتحدد شكل الجولة التالية من العقوبات. ولكن عليها في الوقت عينه أن توضح أنها تدعم رفع العقوبات وتقديم حوافز إيجابية في حال قبلت إيران بمطالب المجموعة.ثانياً، تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى مواصلة القلق بشأن الطريقة التي ستشن بها هجومها العسكري في حال حاولت إيران الإفلات وبناء أسلحة نووية. فرغم سياسة "الاستدارة" والمشاكل المالية، من الضروري أن "تبدّي" الولايات المتحدة تدعيم قواتها العسكرية في الشرق الأوسط على قواتها في آسيا.ثالثًا، كي تنجح عملية الاحتواء، تحتاج الولايات المتحدة إلى دعم حلفائها في الخليج العربي والشرق الأوسط عموما. لذلك لا يُعتبر الوقت ملائماً لنحد من دعمنا العسكري ومساعدتنا الاقتصادية لحلفائنا في المنطقة.ولكن ثمة مقايضة لا مفر منها بين هذه الاستراتيجيات الثلاث المختلفة. فلا شك في أن التهديد العسكري يعزز نفوذ مجموعة 5+1 الدبلوماسي، إلى أن تُعتبر الحرب حلاً لا مفر منه ضد إيران. وفي هذه الحالة، تصبح نتائج التهديدات عكسية. علاوة على ذلك، يُعتبر بناء قوة جيران إيران العسكرية التقليدية جيداً لاحتوائها والحد من مخاطر الردّ الإيراني، في حال استُخدمت القوة العسكرية كوسيلة وقائية.لكن تعزيز القوة العسكرية سيزيد من عدم شعور إيران بالأمان ويحدّ من احتمال نجاح تضييق الخناق. ومن المؤكد أن استعمال القوة، خصوصاً الأحادي الطرف، سيصعّب بناء ائتلاف إقليمي لاحتواء إيران والحفاظ على العقوبات الحالية، التي تُعدّ قلب استراتيجية تضييق الخناق الدبلوماسية.لا يبدو دعم تغيير النظام في إيران منطقياً إلا إذا اعتبرنا النظام الراهن في طهران غير منطقي ولا يمكن ردعه. في المقابل، يقوّض السعي لتغيير النظام استراتيجية تضييق الخناق: إن كانت طهران تعتقد أن الولايات المتحدة تريد الإطاحة بالنظام فحسب، فلن ترضى بالحد من برنامجها النووي. كذلك لا يبدو تغيير النظام منطقياً من وجهة نظر استراتيجية الاحتواء: فهل نود حقاً زعزعة الاستقرار في دولة متسلحة نووياً؟على غرار الكثير من تبدلات السياسة الخارجية التي تواجه الولايات المتحدة (من سورية إلى كوريا الشمالية)، ما من خيار جيد للتعاطي مع إيران. ويشكّل فهم ماهية هذه الخيارات، بما فيها الافتراضات والتداخلات، الخطوة الأولى لاتخاذ قرار مدروس.Gregory D. Koblentz* بروفسور مساعد في جامعة جورج مايسن.