ياسين الحاج صالح: العنف عنصر كامن في التطرف دينياً كان أو سياسياً

نشر في 12-07-2013 | 00:02
آخر تحديث 12-07-2013 | 00:02
ياسين الحاج صالح أحد أبرز الكتاب السياسيين في سورية، برز في هذا المجال بعد خروجه من السجن الأسدي حيث أمضى 17 عاماً من عمره. في حوارنا معه، يقول إن «الإرهاب» نوع من حرب غير نظامية أو حرب السوق السوداء، أو حرب بالتهريب، بالنظر إلى تعذر امتلاك الحرب المشروعة والفاعلة من مجتمعاتنا وبلداننا المعاصرة. ويتحمل الغرب السياسي في منطقتنا مسؤولية أساسية عن تعطيل قدرة الدولة على الحرب.
ما هو مفهومك للتطرف في سورية؟

في سورية وغيرها، يتولَّد التطرف من مسعى طرف اجتماعي أو سياسي أو اعتقادي إلى أن يشغل موقع الأطراف كلها، أو أن يرجح رؤيته وتوجهاته ويفرضها على الجميع. ويتمثل أساس التطرف المعرفي في اختزال الواقع المركب إلى عنصر واحد فيه أو إلى بعض عملياته. يُعرِّف الإسلامي مجتمعاتنا المعاصرة بالإسلام حصراً، ويجعل من نفسه الممثل الطبيعي لهذه المجتمعات الإسلامية. ويُعرِّف البعثي الجدي مجتمعنا بالعروبة وحدها، فيجعل من غير العرب شيئاً نافلاً أو عارضاً، ويرتب جدارة البعثيين وحدهم بالحكم على الصفة العربية الجوهرية لمجتمعنا. وفي الحالين، وأشباههما الكثيرة، يتأسس التطرف كنظام حكم وتفكير، يلغي تنوع المجتمع وتركيبه مصلحة طرف واحد، ولو بالعنف. العنف منهج سياسي مواكب للتطرف دوماً، وإن لم يكن عنفاً سائلاً دوماً.

ويلقى التطرف تسويغاً فكرياً من تمثيل المجتمع المعنى في صورة اختزالية، ترده إلى عنصر واحد من عناصره.

باختصار، التطرف تمثيل فكري أو معرفي احتزالي، وتمثيل سياسي اختزالي أو واحدي لما هو متعدد، وعنف كامن أو متفجر.

وقد يؤدي طول أمد العيش في ظل أوضاع وبنى متطرفة إلى تشكل التطرف في سيكولوجية معتادة على التبسيط والاختزال، تضيق بكل ما هو متعدد الأطراف ومعقد التركيب، وتجنح إلى الحلول العنيفة للمشاكل الاجتماعية والسياسية والفكرية.

في سورية يتلون التطرف بأوضاع البلد، ويبرر نفسه بالمتاع الأيدلولوجي المتاح بمتناول السوريين. وهو يحيل إلى ضعف الإجماعات الوطنية في البلد، وإلى انفلات الأطراف الكثيرة، الفكرية والسياسية والدينية والإثنية والطائفية والجهوية من أي إطار وطني جامع، إن بفعل استئثار طرف اجتماعي سياسي محدد بتعريف الوطنية على نحو يناسبه، أي بفعل التطرف، أو بفعل حداثة سن البلد وندرة اشتغال الفاعلين العامين السوريين على عملية بناء الأمة.

برأيك لماذا يتهم الغرب الإسلام والمسلمين بالتطرف دائماً؟ هل يأتي ذلك كبديل عن الصراع بين الشيوعية والرأسمالية؟

أظن أنه تلتقي هنا ثلاث اختزالات. أولها اختزال تيار عريض في الغرب مجتمعاتنا إلى ثقافتها، وثقافتها إلى الدين، والدين إلى الإسلام، والإسلام إلى الإسلاميين، وهؤلاء إلى التيارات العنفية أو الجهادية منهم؛ وثانيها ميل هذا التيار العريض إلى اختزال الغرب ذاته إلى الغرب الماهوي، اليهودي المسيحي (تمييزاً عن الغرب التاريخي الأكثر عقلانية: الرأسمالية والعلمانية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية...)، أو اشتقاق تاريخ الغرب الحديث من ماهيته القديمة والثابتة، وفي أي من صيغتيه يضع التصور الماهوي للغرب نفسه في علاقة عداء ماهوية بدورها مع الإسلام، عالماً وديناً (من دون تمييز بينهما)؛ وثالثها الصفة المتطرفة فعلاً، فكرياً وسياسياً واجتماعياً، لأكثر تيارات الإسلام المعاصر، وهي تيارات قائمة على اختزال ماهوي مشابه لمجتمعاتنا وللغرب ذاته. الإسلاميون من دون استثناء تقريباً يبنون استحقاقهم للحكم في بلداننا على ما يفترض أنها طبيعة إسلامية ثابتة لمجتمعاتنا، تقصي غير المسلم أو غير النمطي في إسلامه إلى موقع هامشي، وحين لا يرون الغرب ضالعاً في مؤامرة صليبية يهودية قديمة ومتعددة الحلقات، فإنهم يرونه عالماً من الانحلال والتفسخ وانعدام الأخلاق.

وهذا مناسب للأغراض السياسة للطرفين. فإذا كان المسلمون متطرفين جوهرياً، وعنفهم ينبع من تكوينهم ذاته، ومن تكوين دينهم، ويستهدف الغرب المزدهر الناجح، فسيكون علينا، نحن في الغرب، مواجهة هذا التهديد، وأن نصون أمننا ونبقى الأقوى. وهذا جيد أيضاً لصناعات الدفاع وتجارة السلاح واللوبيات المرتبطة بهما. وإذا كان الغرب إما مؤامرة شريرة قديمة أو انحلالاً حديثاً، فإن الإسلاميين هم خير من يحموننا منه. يصادف أن ذلك يقتضي أن يكونوا هم وحدهم الحاكمين!

إذا سقط النظام السوري بدعم من أميركا، هل يحصل وئام بين الجماعات المتطرفة والولايات المتحدة، ويتحول العداء إلى روسيا؟

ربما «وئام» ظرفي ومحدود. الإسلاميون المتشددون مشدودون إلى ثوابت نظامهم الفكري الذي يستمدون منه الشرعية، والقضية المقومة لوجودهم ذاته، أكثر مما إلى أي مصالح سياسية عارضة. وموقفهم الأساسي هو العداء لأميركا والغرب، وإن حصلت تقاطعات هنا وهناك.

وهم على عداء قوي لروسيا، ربما يكتسب زخماً جديداً بفعل سياسة موسكو السورية، لكن أميركا هي مثال العدو لأنها قائدة الغرب، وتجتمع فيها الأمور كافة التي تفتن الإسلاميين، بالمعنى المزدوج لكلمة فتنة، أي الانجذاب والنفور: القوة والثروة والحرية والفن والانفتاح والدنيوية، والحضور الأكبر للنساء في الحياة العامة، أي كل ما يثير الرغبة في التملك والصراع على التملك، الفتنة.

وأميركا أيضاً لا «تتواءم» مع من لا يكون نداً لها. تتعامل مع الإسلاميين أداتياً وعند الاضطرار، وهو ما لا يخفى على هؤلاء وما لا يرضونه.

     

يسعى الخطاب الاستشراقي أحياناً إلى تنميط صورة الإسلام في الغرب كدين مبني على التطرف؟ كيف يمكن الرد على هذه الادعاءات؟

يقتضي تعديل الصورة أولاً تعديل الواقع. لدينا مشكلة في واقع الإسلام والمسلمين المعاصر، لا تعالجها أية أشغال على مستوى الصورة. فإذا كنت متطرفاً فعلاً، تعمل على أن تكون صاحب الكلمة والقرار الوحيد في مجتمعك، فإن إصرارك على تصوير نفسك كمعتدل من دون أن تعتدل فعلاً لا يعني غير أنك «سوبر» متطرف، متطرف في تطرفك.

هل تطرفنا نابع بصورة جوهرية من «الإسلام»، أم من الشروط التاريخية الراهنة للمسلمين؟ هذا سؤال علينا نحن أن نطرحه ونجيب عنه بتوسع، من دون تبسيطات، ومن دون الانزلاق في خطابات اعتذارية أو تبريرية، تبقي كل شيء على ما هو عليه، من نوع تلك التي تلوم المسلمين على بؤس حالهم وسوء أفعالهم، وتنتهي إلى القول إن «الإسلام من ذلك براء». لدينا مشاكل معاصرة متنوعة تلجئ قطاعاً متسعاً من الجمهور إلى «الإسلام»، لكن لدينا أيضاً مشاكل كبيرة في الملجأ السياسي الذي هو «الإسلام»، وتتمثل أساساً في الارتباط بين الدين والعنف، وفي «الأصولية» أو القراءة الحرفية للمتون النصية الأساسية، وفي المنزع التطبيقي في التعامل معها، وفي ضياع المثل الأعلى الأخلاقي في الالتباس بين الشريعة والأخلاق، وفي نزعة الاكتفاء الإسلامية والغرور الأجوف المصاحب لها، وفي الالتباس بين الأمة الدينية والأمة السياسية... وغير ذلك كثير. وهي قضايا لا يكف الوعي الإسلامي المعاصر عن التعثر بها وتجنب مواجهتها في آن. «الخطاب الاستشراقي» لم يصنع شيئاً من مشاكلنا.   

في المقابل كيف يمكن تعزيز وترويج مبدأ التسامح في الإسلام؟

بني التسامح الإسلامي القديم على شيئين في تصوري: اعتراف الإسلام المبدئي بأديان أخرى من السلالة الإبراهيمية وخارجها، ثم سيادة إسلامية لا جدال فيها ولا منازع جدياً لها. أي أن التسامح الإسلامي كان تعبيراً عن قوة اقتدار، لذلك كان يتراجع في أوقات اهتزاز السيادة الإسلامية، ويشتد الميل المقابل نحو التعصب والتشدد. لكن لم يحصل أبداً أن بلغ الأمر حد حرب الإبادة على نحو ما فعل الأسبان حيال المسلمين واليهود أيام «حروب الاسترداد»، وهذا بفضل الاعتراف القرآني المبدئي بجماعات دينية أخرى.

وأعتقد أنه قانون عام أن تظهر الجماعات السياسية والدينية ميلاً أقوى نحو قبول المختلفين والمغايرين بقدر ما تكون أكثر تمكناً من شروط حياتها وأقدر حيال شروطها الطبيعية والتاريخية. التسامح فضيلة، لكن في أساس هذه الفضيلة فضل القوة والثروة المتاح بتصرف المجتمعات والجماعات، والأفراد أيضاً.

من جهة أخرى، كان موضوع التسامح الإسلامي هو الجماعات عموماً، والمعترف بها إسلامياً على نحو خاص، وليس الأفراد.  

ولا أرى أن التسامح ممكن اليوم إن لم يتأسس على حرية الاعتقاد الديني وعلى مستوى الأفراد. التسامح الخاص بالجماعات، عدا عن أنه لا يشملها جميعاً، فإنه يؤسس للطائفية كنظام سياسي لا مخرج منه، فوق كونه لا يكفل الحماية، ولم يكفلها يوماً، للمفكرين الأحرار.

اليوم، يتوافر في المعرض العالمي للنظم الأخلاقية، إن جاز التعبير، ما يتجاوز الصيغ التاريخية للتسامح الإسلامي ويتفوق عليها، وما يوفر اعترافاً واحتراماً كبيرين للجماعات والأفراد، لا نظير له في مجتمعاتنا المعاصرة وفي عالم الإسلام الأقدم. فإن كانت لنا المنافسة في مجال الأخلاقيات، فلا أقل من الاقتراب من هذا المثال العالمي، كي لا نقول محالة تجاوزه.     

لماذا برأيك يربط الغرب بين الإسلام والإرهاب؟

في جانب منه صراع على القيم: من يشغل الموقع الأعلى في الصراعات الفكرية والقيمية، ومن ينجح في مطابقة سلوكه مع القيم الأرفع، فينال من قضية خصمه ومن شرعيتها، ويضعه في موقع الشرير، وهو ما يجعل حياته أدنى قيمة، ويحرمه من تعاطف البشر الآخرين.

وهذا ما يتيح كسب الصراعات السياسية المحتملة بين «الغرب» و{الإسلام»، أي أنه سلاح في الصراع السياسي لا يقل أهمية عن أسلحة أخرى. والواقع أنه سلاح ناجح وفاعل اليوم.

وأعتقد أن «الإرهاب» نوع من حرب غير نظامية أو حرب السوق السوداء، أو أيضاً الحرب بالتهريب، بالنظر إلى تعذر امتلاك الحرب المشروعة والفاعلة من مجتمعاتنا وبلداننا المعاصرة. ويتحمل الغرب السياسي في منطقتنا مسؤولية أساسية عن تعطيل قدرة الدولة على الحرب، في مواجهة إسرائيل وأميركا وأي معتد نظامي محتمل، أي انتقاص سيادة الدولة في مجالنا. حين يتعذر على الدول خوض الحرب، وهي من خصائص الدولة الجوهرية والاختصاصات المقومة لوجودها، وحين نعيش شرطاً حربياً أو موجباً للحرب (مواجهة إسرائيل المعتدية على الأقل)، فستقوم بالحرب جماعات أخرى دون الدولة وذات عزم. والمصدر الأساس للعزم في مجتمعاتنا المعاصرة هو الدين لكونه يتوافر على ذاكرة حربية وطموح سيادي ومخيلة كونية، وعلى دافع تمايز قوي.

الإرهاب هو الاسم المعتمد غربياً لعنف ما دون الدول، العنف غير المتاح للدول. وبصورة مجملة، يمكن القول إن الدين يقوم بالعنف الذي لا تقوم به الدول. وهو عنف أقل تنظيماً وانضباطاً من عنف الدول، وأكثر جذرية وأدنى عقلانية، ما يسهل للغرب السياسي وصفه بالإرهاب. علماً أن الغرب السياسي يشجع الدول على خوض الحرب الداخلية ضد الإرهابيين المفترضين الذين سهل لهم قصور الدولة السيادي وعجزها عن تملك الحرب الظهور. ومن هذا الباب ما يبدو من تمسك أميركي روسي مشترك بأجهزة الأمن السورية. إنها أداة الحرب المرغوبة ضد المحاربين غير الناظميين أو اللادولتيين، «الإرهابيين».    

والخلاصة أن الإرهاب سلاح فكري وإعلامي تستخدمه القوى النافذة عالمياً ضد خصوم سياسيين لها حالت تلك القوى نفسها بينهم وبين إمكان امتلاك الحرب الشرعية. حالنا مع الغرب السياسي في شأن الإرهاب حال من يطلب منه القول الشعبي السائر: مقسوم لا تاكل، وصحيح لا تقسم، وكل حتى تشبع!

   

كمفكر علماني، كيف تجد الفرق بين الجهاد والإرهاب؟

لا وجه للربط بينهما إلا من وجهة نظر خطط وترتيبات السياسة المعاصرة لدينا وفي الغرب. الإرهاب حرب اللادول في شرط تمتنع فيه حروب الدول، أما الجهاد فله أصول دينية وتاريخية مختلفة جداً، ومعلومة، ولم يتشكك أحد في شرعية الارتباط بين الحرب والدين (الجهاد) حتى ظهور الدولة القومية الحديثة التي صارت تحتكر الحرب لنفسها (والعنف في الداخل أيضا).

ما يقرب بين الإرهاب والجهاد اليوم أن عنف اللادول، العنف الذي لا يستمد شرعيته من الدولة، يستمد شرعيته من الدين، ومن مفهوم الجهاد تحديداً. لكن هذا ترابط تاريخي عارض، تحاول المصالح السياسية والمؤسسات الإعلامية جعله ترابطاً جوهرياً دائماً.

       

بعد ثورات الربيع العربي، زاد العنف والتطرف في بعض الدول التي نجحت في تغيير أنظمتها الاستبدادية... ما تفسيرك لذلك، وهل ثمة خوف من أن تنحو سورية بهذا الاتجاه؟

الخوف كله في سورية تحديداً. المجتمع السوري مجتمع معنف، تعرض لمعاملة قاسية وحقود طوال عقود، ثم لعنف متوحش دام سنوات قبل جيل، ثم لعنف أشد توحشاً منذ عامين وربع العام. وهذا دون أن تتلامح مخارج سياسية عادلة أو غير عادلة من هذا الهول المستمر.

وما يحصل اليوم ومنذ عام تقريباً هو استيقاظ كثير من الأشباح النائمة أو الجن الذي كان يسكن الجسد الاجتماعي السوري، ويخرج منه الأن بوفرة مقلقة. والبيئة مناسبة جداً للأشكال القصوى من التطرف في سورية اليوم. ماذا تريد أكثر كي تخرج كل أرواحنا الشريرة وتجوس آفاقنا طول سنوات: تعذيب وحشي في السجون، قصف بالدبابات والطائرات والصواريخ البعيدة المدى، بالأسلحة الكيماوية، بالكراهية الخارقة في وسائل إعلام سورية عامة وحليفة، بالطائفية محلياً وإقليمياً؟ وفوق ذلك تجويع مئات ألوف الناس في مناطق محاصرة، مقطوعة عنها الكهرباء والاتصالات منذ أشهر، ويقطع عنها الطحين ومواد التموين مزاجياً بين وقت وآخر؟

في سورية انتقلنا منذ أشهر، ربما منذ مذابح الحولة والتريمسة في الصيف الماضي، من شرط الثورة التي تواجه بالقمع المتطرف من قبل طغيان سلطاني محدث إلى شرط لا أجد له اسماً، تمتزج فيه الثورة مع حرب محلية وإقليمية مفتوحة، مع حرب طائفية، ومع ما محصلته رعاية دولية لهذا الصراع. شرط تمتزج فيه الثورة الاجتماعية بالصراع الطائفي بالجهاد الديني بالإرهاب العدمي. وتقود فيه مقتضيات مواهة السلطة الغول إلى تغول الدين أو ظهور أشكال غولية من التدين المحارب. وتختلط في هذا الشرط أيضاً الأزمنة، من «الفتنة الكبرى» الإسلامية إلى الصراعات الاجتماعية والسياسية وصراعات الدول المعاصرة، مروراً بصراعات العشائر والأسر والأفراد الطامحين. وتتجاور فيه الأمكنة وتلتصق ببعضها، من باكستان وأفغانستان والشيشان وإيران إلى بيروت وضاحيتها الجنوبية وإلى أحياء دمشق وضواحيها. قيامة كبرى وفوضى مدمرة وخلاقة في آن.

في البلدان الأخرى الوضع مختلف، وأراه إيجابياً عموماً.

  ثمة صراعات وتوترات شديدة، وقوى متنوعة تختبر نفسها وغيرها، وحدود متحركة وغير واضحة بين الجماعة الدينية والأمة، وبين الدين والحزب الديني والدولة، وبين الشريعة والقانون... وثمة، خصوصاً خسارة الإسلاميين وضع الضحية التي كانت تنال التعاطف وظهورهم حزباً سياسياً نزاعاً إلى التسلط، لا ميزة له سوى أنه منتخب شعبياً، ويبدو أنه يبدد رصيده الشعبي باندفاع. هذه في عمومها تطورات سياسية واجتماعية وفكرية سوية، وفي محصلتها يبدو أن مؤسساتنا ونظمنا السياسية والقانونية تتشكل في المستقبل.    

 

هل التطرف نتاج الاستبداد أم المجتمع والبيئة أم النص الديني؟

العلاقة أكثر تركيباً في تقديري. الاستبداد مشكلة بحد ذاته من حيث أنه يقمع ويقتل ويولد الأحقاد ونزعات الثأر، وهو يجعل كل شيء أسوأ وأكثر تعقيداً بفعل ما يتسبب به من تجميد الزمن وتعطيل قدرة المجتمع على معالجة مشاكل أخرى وحلها، خصوصاً ما يتصل بشؤون «المجتمع والبيئة والنص الديني». وفي المثال السوري الذي أعرفه بقدر معقول أرى أن الاستبداد المضاعف الذي عرفناه في العقود الماضية، أو الطغيان الأسدي، قد أضفى ضفة سياسية مفرطة على كل شيء من حيث أنه عمل على نزع السياسة من الجميع، وآل إلى جعل الاشتغال بالسياسة الشكل الوحيد أو الأبرز للفاعلية العامة على نحو نراه اليوم بوضوح. الاشتغال على قضايا الثقافة والدين والقيم الاجتماعية، وهي مواضيع أكثر أهمية وأخصب في تقديري، لا يكاد يتوفر عليه أحد تقريباً، أو يتوفرون عليه بصور تشف عن تفضيلات سياسية وإيديولوجية مباشرة، ما يجعل هذا الاشتغال استمراراً للسياسة بوسائل أخرى تبدو متجردة منها.

أعرف ذلك من تجربتي الشخصية. فقبل الثورة كنت أشتغل أكثر فأكثر على قضايا ثقافية ودينية واجتماعية، لكن مع تفجر الثورة غلب عندي الشاغل السياسي مجدداً. هذا ينطبق على أكثر المثقفين السوريين، حتى إن بينهم من صاروا سياسيين متفرغين.      

إلى أي مدى يمكن أن يتحول التطرف الفكري والديني إلى عنف على مستوى الشارع؟

العنف عنصر كامن في التطرف، دينياً كان أو سياسياً. وهو لم يتأخر في الحالة البعثية عن التحول إلى «عنف على مستوى الشارع»، عنف يومي طوال عقود، منظم وسائل؛ ولن يتأخر في حالة الإسلاميين في التحول إلى عنف مماثل ويومي. وظروف الصراع السوري تسهل أمر ترجمة التطرف إلى عنف. أخشى أن نسبة كبيرة من السوريين اعتادت العنف المسلح، وأن السوريين كلهم تقريباً اعتادوا العنف اللفظي والنفسي. والخشية كل الخشية أن تطوى صفحة العنف المادي بتسوية كاذبة، بينما يبقى العنف النفسي والكلامي منتشراً على نحو ما هي الحال في لبنان، تعايش متكارهين.

      

يرى مفكرون غربيون أن غزوات النبي محمد تدخل تحت بند العنف الممارس ضد المخالفين لعقيدة الإسلام؟ كيف ترى ذلك؟

هذا إسقاط تاريخي غير شرعي، معرفياً وحقوقياً. كان ذلك عنفاً سياسياً جرى في سياق عيني محدد، سمته الأساسية محاربة الدعوة المحمدية واضطهاد معتنقيها، وصولاً إلى إخراج النبي وأصحابه من ديارهم. رد المسلمون على ذلك بالقوة حين تسنت لهم الفرصة، وتطور الأمر تدريجاً إلى صراع بين معتنقي الدعوة الجديدة وخصومها، هزم بمحصلته الأخيرون. لم تكن هذه المحصلة مضمونة إلا من وجهة نظر العلم الإلهي الكلي، أو من وجهة نظر من يقف في منتهى التاريخ.

ثمة مشكلة في مقاربة الصراع بمعايير اليوم، سواء عند «مفكرين غربيين» أو عند نظراء عرب ومسلمين لهم. لكن ثمة مشكلة أيضاً في التفكير الإسلامي تتمثل في إضفاء صفة مقدسة على مجمل صراعات الحقبة النبوية، ونزع صفتها التاريخية، ومن دون تمييز بين تصرفات الرسول بمقتضى النبوة وتصرفاته بمقتضى السياسة (وهو تمييز يجريه بعض الدارسين المسلمين اليوم)، ثم العمل على سحب تلك الصراعات على كل زمان ومكان، وجعلها نموذجاً أصلياً ومتكرراً لكل صراع سياسي يخاض في عالم الإسلام أو بين المسلمين وغيرهم. هذه مقاربة غير سليمة، وتقود إلى عواقب خطيرة، من بينها الرفض الجذري للعلمانية، ومن بينها إضفاء صفة دينية على كل صراع سياسي.

       

ماذا قدم العالم الإسلامي منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 لتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام واعتباره دين إرهاب؟

لا شيء. لكن دعنا لا نقارب «تصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام» من زاوية سياسية ضيقة تتعلق باعتبار غربيين له أنه «دين إرهاب». أعتقد أن ثمة حاجة ملحة، حاجة إسلامية أولاً وثانياً وثالثاً، لإعادة هيكلة التعاليم الإسلامية حول نواتها الأساسية: توحيد الله والعدل بين الناس وعمران الأرض ومكارم الأخلاق. هذه حاجة كبرى للمسلمين وليست مسألة علاقات عامة متعلقة بالصورة والترويج على نحو ما تتعامل معها دول ومجموعات إسلامية كثيرة. المطلوب إصلاح الأصل وليس تصحيح الصورة، ولأجل تصحيح الصورة.

وإصلاح الأصل يقتضي تعريف الدين باللاإكراه، بالإيمان واليسر وانشراح الصدر والنفس المطمئنة، وتعريف الإكراه باللادين أو بما هو مغاير للدين من أجهزة ومعاملات قائمة على القسر، مثل الدولة والجيش والسجن وعصابات قطاع الطرق.

لا يستقيم شيء في حياتنا الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية دون ذلك. ويبدو لي أننا اليوم ندخل الزمن الذي يفرض على المسلمين مواجهة تحديات الإصلاح الديني مباشرة. الأمور تصبح جديدة أكثر فأكثر، مضطربة، خطرة، وعنيفة، لكن خصبة ومثمرة أيضاً، وجدية.    

back to top