لا أريد أن أدخل رواية إسماعيل فهد إسماعيل "في حضرة العنقاء والخل الوفي" مباشرة، بعيداً عن الوقوع في مجانية المديح والعلاقة الشخصية التي تربط بين التلميذ وأستاذه، دون توطئة للفن الروائي الذي استخدمه الروائي وهو يمارس حرفة الكتابة، متحركا خارج المتخيل في ممارسة كتابية صعبة جداً، لأسباب نتطرق إليها لاحقاً. فالرواية كما يشرحها النقاد هي الجنس الأدبي المتحرك شكلاً أكثر من بقية الأجناس الأخرى. وعلى النقيض من القصيدة التي يطرأ عليها تطور خفيف في البناء الداخلي أو المسرحية محدودة الحركة في تعداد فصولها، وربما إضافات إخراجية كما فعل تينيسي وليامر في "عربة اسمها اللذة"، أو الكثير من الأجناس الكتابية التي تبدو أكثر ثباتا تحت وطأة معوقات اللغة، كالتقارير المعملية أو المرافعات القضائية.

Ad

القضية الأهم في رواية إسماعيل فهد إسماعيل الأخيرة، في ما أعتقد، هي عودة إلى نقاش قادته مجموعة من النقاد منهم رولاند بارت وجون بارث وفيليب روث حول مفهوم "موت الرواية" وخروج القارئ من ساحة القراءة إلى فضاءات أخرى بحكم التطور التقني الحديث في السينما والإعلام والإنترنت. ورغم أن ذلك الرأي واجهه الكثير من المعارضين منهم بول أوستر، ردا على فيليب روث وروبرت كلارك يونغ في "موت موت الرواية". كان القصد في طرح مفهوم موت الرواية هو انقراضها وتخلي كتابها عنها، وحدد فيليب روث ربع قرن من الآن لحالة الوفاة تلك. وصرح بأنه الآن لا يقرأ روايات بمعنى Fiction، وإنما يقرأ سيرا وكتب تاريخ. إسماعيل فهد إسماعيل في هذه الرواية يضع القارئ أمام ما يمكن تسميته "موت المتخيل". وفي الوقت نفسه يمتلك الإصرار على تجدد حياة الرواية وتعدد مشارب كتابتها وتحركها في الفضاء الاجتماعي والمعرفي، والتي تفشل دائما بدائلها التي يتوقعها البعض.

يدخل إسماعيل العملية الروائية، وسواء كنت تعرف إسماعيل شخصيا أو لا تعرفه، مسلحا بذاكرة فطنة لأحداث يقودها شخوص تعرفهم في الفضاء المسرحي، الذي ارتبط به إسماعيل شخصيا. هؤلاء الشخوص الذين يتحركون ألزموا الروائي كما ألزموا الراوي السير بحذر شديد حول حمى ما يمكن البوح به للخروج من متاهة الدخول إلى عالمهم الواقعي، فضلا عن عالم متخيل كان من الصعب إقحامهم فيه. وكاد ذلك يقودنا الى أننا أمام سيرة ذاتية لشخص لا نعرفه تحديدا، لكن من اليسر بمكان الإشارة إليه وإلغاء كل صفة متخيلة عنه. هو، أي بطل الرواية، يقف على ذات المسافة من الأسماء الحقيقية للشخوص التي يقف منها الروائي ولا يسمح الجنوح التخيلي له بالتخلص من المحاذير التي التزم بها الروائي وألزم الراوي بها فيما عدا ما يخصه هو.

القصدية التي عمد اليها إسماعيل فهد إسماعيل في إبطال المتخيل أو قتله كان واضحا سبب الشروع فيه هو خلق نبض حي في محاولة تأكيدية بأن بطله أيضا ليس متخيلا. هي محاولة استدراج القارئ لإدراك أن العمل الروائي الذي يقرأه ليس عملا روائيا كما توحي كلمة رواية التي جاءت أسفل العنوان، ليس هناك عوالم موازية للواقع التقليدي الذي تعرف اليه القارئ في النصوص الروائية التقليدية. ما يراه القارئ هنا هو نص روائي شاركنا فيه جميعا بدرجات متفاوتة. ونحن جميعا كالشخوص التي جاءت بأسمائها شاركنا في المشهد العام للرواية إما كشهود في معرفة ما يحدث أو جزء مباشر في ما يحدث.

في الرواية الكثير من الجهد التقني في الكتابة الروائية الذي يستحق الوقوف عنده في المرة القادمة.