سأكتب اليوم عن تفاصيل بسيطة وحميمة تكشف رهافة إنسان يختفي خلف قناع العالم الذي غير التاريخ الإنساني بنظرياته العلمية وأبحاثه والعشرات من المخطوطات والكتب في مختلف المجالات، التي ربما لا تعرف الأكثرية له إلا نظرية أصل الأنواع، ونظرية التطور، والاصطفاء أو الانتخاب الطبيعي، وسلف مشترك، التي أشارت إلى انحدار الإنسان من أصل قرد تطور عن طريق الانتقاء الطبيعي والتكيف عبر الأجيال، التي قلبت عليه العالم كله وأثارت الكنيسة وقساوستها، لكنه استمر في أبحاثه واكتشافاته ولم يترك أي مخلوق على الأرض من دون دراسته: الإنسان، الحيوان، الطيور، النبات، الحشرات، الديدان، الأحافير وحتى أنواع التربة، هذه الدراسات موجودة في مؤلفاته، فهو الذي قال: من يضيع ساعة من وقته، لا يعرف قيمة الحياة ويجهل عيشها.
الطريقة المثلى لمعرفة أي إنسان هي معايشته إن كان حيا، أو معايشة آثاره إن كان ميتا، لذا ذهبت لزيارة منزله وحدائقه الرائعة في مقاطعة كنت الإنكليزية حيث توجد قريته "دون"، المكان في فراغ العالم حيث لا يكون قريبا جدا من الجيران، وليس بعيدا جدا عنهم، كي يصرف وقته في العمل بعيدا عن المجاملات الاجتماعية.المنزل بقي على حاله بعد أن أهداه الورثة إلى الحكومة البريطانية، كل شيء فيه يذكر في حياة سكانه، بغرفة المعيشة وصالون الاستقبال وغرفة الطعام وغرفة لعب الأطفال ومكتب تشارلز داروين بكل تفاصيل حياته التي عاشها فيه، وكل ما جمعه من رحلته على ظهر السفينة بيجل التي أبحرت من انكلترا إلى أميركا الجنوبية واستراليا وإفريقيا ودارت حول العالم في خمس سنوات كانت السبب في انطلاق شهرته، بسبب أبحاثه ودراساته التي كان يرسلها لتنشر في لندن، ومنها مجموعة الحشرات المتموهة والطيور الغريبة التي قدمها له مواطنون في تلك الدول حين لاحظوا اهتمامه بجمعها، واكتشافه لتلك الأحافير الغريبة ومنها ما يسمى بـ"ماجثيريم" وهو درع عظمي عملاق من حيوان المدرع المحلي.في مكتبته كل ما دونه وكتبه في حياته بما فيها مذكراته الضخمة التي كتبها في السنوات الخمس على السفينة، وهناك ايضا مذكرات طريفة سجل فيها حياة كل طفل من أولاده الـ10 وتطورهم، هم أيضا كانوا من ضمن الكائنات التي اجرى عليهم أبحاثه، وكانوا يلعبون حوله بالحشرات والخنافس ويساعدونه في جمعها، وكان سعيدا بهم ومحبا ومتسامحا معهم، مثلما كان والده الذي كان منفتحا بعكس تقاليد زمنه الفيكتوري المتزمت، واحتار في طباع ولده فحين كان عمره 9 سنوات أرسله إلى مدرسة شاروزبري، لكنه لم يتقبل التعليم الكلاسيكي وكان يذهب إلى جمع الخنافس من الغابات، كما أطلق عليه زملاء فصله لقب جاز بسبب ولعه بالتجارب الكيميائية التي يجريها في البيت، وعندما أصبح في الـ15 من عمره اهتم بهواية التصويب على الكلاب وصيد الفئران مما أزعج والده فأنبه على تشويه سمعة العائلة وسمعته، هذا الولد المتعب والمحير أصبح فخرا لوالده الدكتور ولجده العالم والمؤلف ولعائلته العريقة وعائلة زوجته وجوود الشهيرة.هذا الذي قال: على رجل العلم ألا يكون لديه أمنيات أو عواطف، وأن يكون قلبه مقدودا من الصخر، لم يكن هو كذلك فقد بكى موت ابنته آني ذات السنوات العشر، وكتب: "الصورة تشبهها لكنها لم تصطد بريق وجهها الغالي في وقت ابتساماتها الحلوة"، وبقيت جرح عمره الذي لم يندمل.هذا الرجل العالم المشغول طوال الوقت بأبحاثه كان زوجا عاشقا لزوجته محبا وكتب عنها: "إن حياته توجت بها، وأن أقبل اليد بكل التواضع والعرفان، تلك التي ملأت كأسي بالسعادة، وأن تكون رغبتي المخلصة أن أكون مستحقا لك".خلال سيري في الممشى الحصوي الذي كان يمشي فيه لبلورة أفكاره، غزتني الفكرة التالية: لو لم يكن تشارلز داروين منحدرا من أسرة ثرية هل كان بإمكانه أن يأتي بكل هذه الهكتارات من الأراضي ويجعلها مختبرات وأن يصرف حياته على الأبحاث والسفر وجمع احفوراته، مثله مثل إسحاق نيوتن وفرجينيا ولف وأجاثا كريستي حيث كان الثراء عاملا مهما في تحقيق أهدافهم؟الغريب أن تشارلز داروين وإسحاق نيوتن كانا مؤمنين بالديانة التوحيدية ومع ذلك فقد قدما أبحاثا ودراسات تتعارض أحيانا مع ديانتهم، خاصة داروين.
توابل
تشارلز داروين وتفاصيل حميمة
16-09-2013