خدعوا الناس، بل غرروا بهم طويلاً، عندما أوهموهم بأن السينما لا تحرك شعباً ولا تغير مجتمعاً، وأنها لم تكن أبداً أداة تنوير أو فعلاً «ثورياً» بأي حال، ودللوا على هذا بأن فيلماً مهما علا شأنه وكبرت قيمته لم ينجح في التأثير على الجمهور، بحيث يقوده إلى القيام بتظاهرة عقب خروجه من دار العرض السينمائي، يُطالب فيها بالتغيير أو ينادي من خلالها بالإطاحة بالعملاء والخونة وأباطرة الفساد، وكأن دوره لا يتجاوز الترفيه والتسلية!

Ad

يحدث هذا في الوقت الذي يتهمون فيه السينما بأنها تؤدي دوراً سلبياً، عندما تحرض الجمهور على ارتكاب الشرور والموبقات، وتقدم فصولاً مجانية في تدريس أحدث نظريات الرعب واستباحة العنف وتشجيع جرائم القتل والدم، وهي الأزمة التي واجهها أخيراً المخرج الأميركي المعروف كوينتن تارانتينو (50 عاماً) عندما فوجئ، عقب حادث إطلاق النار العشوائي في مدرسة «نيوتاون» والذي راحت ضحيته عشرات الأشخاص غالبيتهم من الأطفال، بقرار إلغاء العرض الأول لفيلمه الجديدDjango Unchained، بطولة جيمي فوكس وليوناردو دي كابريو، الأمر الذي دعا أسرة الفيلم إلى الاكتفاء بتنظيم حفلة افتتاح صغيرة، لكن تارانتينو لم يفوت الأمر، وأدلى بتصريحات لمحطة «إن بي آر» الإذاعية الأميركية قال فيها إن الفيلم ليست له علاقة بالمذبحة، واعتبر أن الحديث عن الأفلام في سياق كهذا يعكس نوعاً من عدم الاحترام تجاه ضحايا الحادث، وأرجع ما حدث في الواقعة إلى «الرقابة على الأسلحة والحالة النفسية»، واختتم بقوله: «لا ينبغي الخلط بين الأفلام التي تتضمن مشاهد عنف والأحداث على أرض الواقع».

في سياق ليس بعيد، قالت إدارة «مهرجان دبي السينمائي الدولي» إنها تلقت، بعد عرض فيلم «أرض الحكاية» لمرتين خلال أيام المهرجان، سيلاً من المكالمات الهاتفية التي يستعلم أصحابها، من الجمهور العربي الذي تفاعل مع الفيلم، عن رقم هاتف المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، وبعدها تباحثوا معه سبل تقديم الدعم والمساهمات المالية السخية لمناصرة أهل القدس لأجل ترميم وصيانة المنازل الفلسطينية الواقعة في محيط المسجد الأقصى، وهي القضية التي تناولها مشهراوي في فيلمه حين أشار إلى الصعوبات التي يواجهها «المقدسيون» في ما يتعلق بالحفاظ على هوية المدينة المقدسة العربية، وأهمية استمرار مرابطتهم في منازلهم التي تحتاج إلى ترميم وصيانة، كما يحتاج بعضها إلى إعادة بناء أجزاء كثيرة، قبل أن تُصبح، بسبب ضيق ذات اليد لأصحابها، نهباً لمخططات التهويد!

يتأكد لنا في الحالين، على عكس المزاعم التي يروج لها البعض حول تضاؤل دور السينما وانعدام فاعليتها وعدم جدواها في إحداث التغيير، حجم التأثير الكبير الذي تُحدثه السينما بين جموع الناس، واتساع مساحة التفاعل الجماهيري الذي تحققه من فيلم إلى آخر، والرسالة التي تنجح في توصيلها تبعاً لتوظيف القيمين على صناعة السينما لوسائل الإبهار، واستفادتهم من أحدث التقنيات.

من الذي يحاول إذاً التقليل من جدوى فن السينما وأهميته، ويسعى إلى تحقير مكانته بين الناس، ويحط من شأن تأثيره في الشعوب والأمم؟

أصحاب المصلحة في غياب دور السينما وتغييبه والتهوين من أهميته، هم أكثر الناس دراية بدور هذا الفن وإيماناً بخطورة رسالته وإلماماً بحجم تأثيره، ولهذه الأسباب كافة يشنون الحرب ضد السينما، ويؤججون مناخ التحريض على كراهيتها وازدراء المشتغلين فيها؛ فالسينما بالنسبة إليهم ضوء كاشف يفضح الطفيليين، ويُلاحق أباطرة الفساد، ويُعري الخونة والعملاء الذين يبيعون الوطن، ومن ثم يوسع رقعة وعي الجمهور بقضايا الأمة، وهو الدور الذي تأباه طغمة فاسدة تخشى حدوث هذا التفاعل المباشر، وتسعى إلى إجهاض ذلك التواصل الحميمي، كونها أول من يدرك أن السينما مقدمة للتنوير الذي يقود إلى التغيير، وأن تأثيرها يتجاوز اللحظة ليبقى مع الزمن. حديثنا عن السينما هنا حديث عن يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وعاطف الطيب وعلي بدرخان وداود عبد السيد ومحمد خان وخيري بشارة وشريف عرفة... والأجيال التي أدركت أن السينما فعل «ثوري»، وأنها قادرة بتراكم التجارب على إحداث الفارق ثم التغيير، الذي يبدأ بالنفوس والمشاعر وينتهي بالعقول قبل الحناجر، ووقتها سيُصبح من الممكن والمتوقع أن ينتهي عرض فيلم ما بتظاهرة يخرج فيها الجمهور إلى الشوارع مُندداً بنظام سياسي شمولي أو وضع اقتصادي يقترب من حافة الإفلاس؛ فالثورات تبدأ من الأفلام!